في ربيع عام 2016 وبعد وقت قصير من نشر مجلة أتلانتك لمقالة كنت كتبتها عن سجل السياسة الخارجية للرئيس السابق باراك اوباما قمت بزيارة لمؤسسة هوفر وهي مركز تفكير في حرم جامعة ستانفورد حيث وضع جيمس ماتيس نفسه في منفى مريح، كان يومها يعكف على تأليف أحد الكتب ويحاول– بنجاح متقطع – كبح الاستياء من تصرفات أوباما وفريقه للأمن القومي.وقام اوباما بإبعاد ماتيس، وهو جنرال في سلاح مشاة البحرية عن منصبه كرئيس للقيادة المركزية الأميركية قبل ثلاث سنوات، واعتبر الرئيس، اضافة الى مستشاريه، أن ماتيس كان ميالاً بشدة الى النزعة الحربية والإصرار على أمور تتعلق بإيران، وفي تلك الفترة أبلغني ماتيس أن «إيران هي التهديد، ولكنني أظن أن الناس سئموا الاستماع».
كانت ستانفورد مريحة وممتعة وقد استمتع ماتيس بوجوده هناك، وقال لي في أحد الأيام ونحن نتوجه لتناول الطعام: «الأمر كأنني توفيت وذهبت إلى الجنة والطقس مثالي هناك»، وكانت تلك المرة الأولى التي رأيت فيها ماتيس منذ أن نشرت مقابلاتي مع أوباما وكان حاداً تماماً حول الموضوع.وأذكر أن اوباما أوجز في تلك المقابلات فهمه لدور الولايات المتحدة في العالم، ولم يصور نفسه مثل رافض وهو بالتأكيد لم يكن انعزالياً، ويتمثل الجانب الذي أثار رعب ماتيس بشكل خاص في الطريقة التي اتبعها اوباما في حديثه عن حلفاء أميركا، وقد انتقد فرنسا وبريطانيا والحلفاء العرب ووصف الحلفاء بالمتطفلين أو المستفيدين بشكل مجاني، كما أعرب عن انزعاجه من جهودهم الواهنة في ليبيا وفي حلف شمال الأطلسي.وقال ماتيس: «كانت مقالتك طويلة حقاً وقد طبعتها وكنت أتوقف لقراءة بعض صفحاتها وأعتقد أنني طبعت ملاحظات تتعلق بما قاله ترامب وليس اوباما بسبب التشويش. وفي ذلك الوقت كان ترامب قد برز كمرشح محتمل للرئاسة عن الحزب الجمهوري، وقد وصف اوباما حلفاء الولايات المتحدة على أنهم مجموعة من «المتطفلين» وذلك أمر سيئ جداً ويشكل اهانة بالنسبة الى حلفائنا.
المحادثات مع ماتيس
كان يمكن لمحادثتي مع ماتيس في ذلك اليوم في حرم جامعة ستانفورد أن تتمحور حول عصر آخر أو كوكب مختلف، وكان من الغريب أن أظن أن الانتقادات المعتدلة التي وجهها اوباما الى مجموعة من الحلفاء الذين ربما كانوا يستحقونها سوف تفضي الى الاحتجاج العنيف الذي نجم عنها. وفي ربيع عام 2016 لم يكن في مؤسسة الأمن القومي الأميركية من يظن أن دونالد ترامب سوف يصبح رئيساً للولايات المتحدة وأن يجعل هدفه تفكيك الفكرة الأميركية.وأنا أطرح هذه الرواية لأنها تبرز نقطة مهمة وهي أن جيمس ماتيس كان يفهم منذ البداية طبيعة الخلل الثقافي والعقائدي والسلوكي لدى دونالد ترامب حتى مع اختياره للعمل في فلكه وشغل منصب وزاري في ادارته.أقام ماتيس، وهو في سنوات تقاعده، طريقة مريحة للحياة ولكن عندما جاءت دعوته اختار العودة الى الخدمة من جديد، وليس ثمة شك لدي في أنه كان يفضل العمل مع هيلاري كلينتون لو أنها فازت في انتخابات الرئاسة الأميركية، ولكن الواجب الوطني هو الواجب الوطني وقد قام ماتيس بواجبه عندما انضم الى فريق الرئيس ترامب، كما قام بواجبه الوطني في الآونة الأخيرة عندما قرر أنه لم يعد قادراً على الاستمرار في العمل مع ترامب.وشمل الانتقاد الذي وجه الى ترامب رسالة الاستقالة الاستثنائية التي تقدم بها جيمس ماتيس والتي خلت من التركيز على الخلافات السياسية، كانت لدى ماتيس طبعاً مجموعة من المجادلات الشخصية والسياسية مع الرئيس ترامب، وشعر باستياء خاص من قرار ترامب في وقت سابق من هذا الشهر بتعيين الجنرال مارك ميلي في منصب الرئيس الجديد لهيئة الأركان المشتركة فيما كان الجنرال ديفيد غولدفن وهو قائد سلاح الجو الأميركي الخيار المفضل لدى ماتيس.أوهام ماتيس
ولكن انتقادات ماتيس كانت أساسية ومهمة، وقد كتب في رسالته أن الرئيس ترامب لا يفهم قيمة الحلفاء أو عواقب التخلي عنهم، وكما لاحظ زميلي ديفيد فرام فإن ترامب تخلى عن الأكراد حلفاء أميركا في سورية وتركهم عرضة للتطرف والإرهاب، كما تخلى عن أفغانستان وتركها تحت رحمة حركة طالبان، وكان ماتيس يعلم دائماً أن ترامب يفتقر إلى فهم أن الدكتاتورية هي عدو الفكرة الأميركية، ولكن ماتيس كان يعمل تحت الوهم بأن في وسعه تغيير وجهة نظر ترامب أو البعض من طرقه التي تتسم بالحماقة، ولكن الأمس القريب برهن على نهاية ذلك الوهم الذي كان يتملك ماتيس.ويعني خروج ماتيس أيضاً أن الولايات المتحدة بدأت بالدخول في المرحلة الثالثة من سياسة الرئيس ترامب الخارجية، وفي السنة الأولى من رئاسته ركز ترامب بشكل رئيسي على القضايا الداخلية الأميركية ولم يؤثر سلباً على المؤسسة الدبلوماسية والأمن القومي بعدد كبير لا حاجة له من وجهات نظره التي تتسم بالجهل والأضرار في السياسة الخارجية، وفي عامه الثاني أصبح أكثر تدميراً، ولكنه كان يستمع، في بعض الأحيان، الى اولئك الذين يتمتعون في ادارته بخبرة فعلية في السياسة الخارجية. ونحن ندخل في الوقت الراهن السنة الثالثة من رئاسة ترامب والمرحلة الثالثة أيضاً من سياسته الخارجية: وترامب وحده – وهو محاصر – يعتقد ربما أكثر من أي وقت مضى في أن معتقداته معصومة عن الخطأ.ويعلم ماتيس ماذا كان ترامب وقد انضم اليه على أي حال لأنه وطني، ولأنه كذلك كان يمكن أن يستمر مع ترامب لو أنه ظن أن في استطاعته التأثير على سياسة سيد البيت الأبيض، ولكن الواقع أن ماتيس فقد كل ما كان يملكه من تأثير.وقد بدأ الآن الجزء الخطر في هذه العملية.