الكلام عن «إعادة الإعمار» في سورية، والصادر عن نظام دمشق وداعميه في روسيا وإيران، لا يعبر عن جهد مشروع لبناء ما تهدم ولتقديم الغوث والعون للمحتاجين، وذلك بغضّ النظر عمّا تبديه بعض الجهات الخارجية من اعتبار للموضوع. بل إن «إعادة الإعمار» المزعومة هذه ليست إلا متابعة للحرب التي تشهدها سورية بوسائل جديدة أصبحت متاحة للنظام، ولا مصداقية للحملة التي تشنّها الوسائل الإعلامية المدعومة من روسيا وإيران والتي تعتبر أن العقوبات التي أعادت الولايات المتحدة فرضها على إيران، بالإضافة إلى التشكيك الغربي بشأن إعادة الإعمار، هي مجرّد عراقيل أمام تحقيق التقدم المطلوب في سورية ما بعد الحرب. الأرجح هو أن موقف واشنطن المرتاب الذي يشاركها فيه الحلفاء الأوروبيون، هو ردة فعل منطقية للمناورات الخبيثة التي يقدم عليها النظام وداعموه، إذ ليس بالإمكان تصور جهد إعادة إعمار صادق ومنتج في سورية مع استمرار النظام القمعي في الحكم.ما شهدته سورية من خراب يفوق الوصف، فقد أزهقت الحرب حياة الآلاف، موقعةً عدداً لا يستهان به من الجرحى والمعوقين، وامتد دمار البنية التحتية إلى أجزاء واسعة من البلاد، وبينما تصل نسبة النازحين والمهجرين إلى ما يقارب نصف عدد السكان، يستفحل طغيان أمراء الحرب ويبدو نسيج الوطن الاجتماعي متضرراً الى حدّ بعيد.
مسؤولية النظام
تقع مسؤولية المأساة السورية على عاتق جهات كثيرة، غير أن نظام دمشق، المتسلّط هو من يتحمل المسؤولية الأولى، ورغم ذلك فإن هذا النظام، وبمساندة كلّ من روسيا وإيران، بصدد إعلان النصر والمطالبة بالعودة إلى المنظومة الدولية كحكومة سورية الشرعية، فالدعوة إلى المشاركة الدولية بمشروع «إعادة إعمار» سورية هو تفصيل فحسب ضمن الجهود الساعية إلى «تطبيع» النظام. على أن مزاعم «إعادة الإعمار» لا تقترب البتة من الصدق، بل هي مناسبة متعددة الأوجه لهذا النظام للمضي قدماً في جهوده لإخضاع خصومه والقضاء عليهم، والعودة إلى صيغة الحكم القائمة على ترهيب السكان، ومكافأة أتباعه. والأرقام التي يروجها النظام لمشروع «إعادة الإعمار» تصل إلى أربعمئة مليار دولار، في مقابل التقديرات الصادرة عن روسيا والتي تقف عند أكثر من النصف بقليل، قرابة 250 ملياراً، بينما يتحدّث رجال أعمال مقربون من النظام عن مبلغ بمقدار مئة مليار دولار فحسب. والمنطق الذي تسوّقه موسكو رسمياً عبر المنظومة الإعلامية التي تهيمن عليها الرؤيتان الروسية والإيرانية، هو منطق «الواقعية»، فالنظام قد انتصر، وآن الأوان للإقرار بأن مصلحة الجميع تقتضي إعادة بناء ما دمّرته الحرب.ولابد بالفعل من الإقرار بـ«الانتصار»، فقد استعاد النظام السيطرة على معظم الأراضي السورية، كما يتأهّب لشنّ هجوم يستكمل فيه فتوحاته في حال سقطت آخر معاقل المعارضة في محافظة إدلب على ما تشهده من ارتباك وسوء إدارة، أما الاستثناء الوحيد في المستقبل المنظور فقد يكون المناطق الحدودية الشمالية، سواء منها منطقة الحكم الذاتي المعلنة في الشمال الشرقي، التي أصبحت اليوم عرضة للهجوم التركي مع القرار الأميركي المباغت بالانسحاب، أو مناطق الشمال الغربي والتي تحلّ فيها دون ضبطها بالكامل قوات تابعة لتركيا، كما أن التخلي الأميركي عن دورٍ في سورية من شأنه أن يدفع تركيا إلى مزيد من التسوية مع روسيا.يبدو النظام منشغلاً بتقديم المشاريع الكبرى، دون أن يكون الهدف من هذه المشاريع رأب ما انكسر وإعادة الإعمار، بل إعادة هندسة البلاد سكانياً لما فيه مصلحته السياسية والأمنية، فالاطلاع على جغرافيا الدمار والنزوح في سورية يكشف أن الخراب لم يكن عشوائياً بل جاء مطابقاً لمسعى النظام لإقامة منطقة مركزية متواصلة وطيّعة تحت سيطرته، ولحرمان خصومه من الحواضن الشعبية في قلب البلاد، وقد مكّنت روسيا هذا التوجه، فيما شاركت إيران في تطبيقه ميدانياً، ما يجعلها متواطئة فيه بالكامل.إعادة هندسة السكان
وتشكل منطقة القلمون مثالاً على ذلك، وهي واقعة عند الممر الرابط بين دمشق العاصمة ومنطقة الساحل الموالية للنظام. فالحساب الماضي في تفريغ المنطقة من أهلها يكشف عن جسامة استعداد كل من النظام وإيران في الاستمرار بسياسة إعادة الهندسة السكانية لسورية، وقد أنيط بحزب الله الدور الأول في هذه العملية، ويبدو واضحاً أنّ تعريض لبنان لخطر عدم الاستقرار والتفريط بسمعة حزب الله على مستوى المنطقة ثمن مقبول لمساعدة نظام دمشق في إعادة ترتيب الداخل السوري سكانياً وأمنياً.وفي منطقة القلمون، كما في غيرها، يمكن لبعض السكان الهاربين العودة، على أنها عودة جزئية ومشروطة فحسب، تنطوي على قبول واقع جديد مختلف في بلداتهم وديارهم، على المستويات السكانية والاقتصادية والقانونية، فالسكان العائدون عرضة لمصادرة ممتلكاتهم عبر الاستيلاء الصريح على أموال «الخونة»، من المعارضين والمشتبه بولائهم ومن يمت إليهم بصلة القربى. كما على العائدين قبول إعادة ترتيب أوضاع الملكية، سواء من باب التحضير لإعادة الإعمار، بما في ذلك من مهل غير قابلة للاستيفاء ممّن هم في الخارج، أو من خلال فقدان حقوق الملكية نتيجة التزوير أو تدمير الدوائر العقارية. وفي حين يقدّم النظام بعض السبل لمعالجة هذه الأوضاع، فإنها جميعها أقرب إلى الفخ الهادف إلى الإيقاع بالمعارضين في أيدي النظام للمعاقبة أو التوريط أو كليهما.للاطلاع على المنهجية التي يعتزم نظام دمشق اتباعها في «إعادة الإعمار» يكفي مراجعة سجله في الحكم على مدى العقود الماضية وأدائه بالمواجهة الدامية على مدى الأعوام الماضية. تبدو «إعادة الأعمار» عندها مرادفاً لتعزيز بنية القمع التحتية، وتمتين منظومة الثواب والعقاب إزاء الأتباع والخصوم لإخضاع الجمهور بالكامل. ولا شك أن خطاب «إعادة الإعمار» بما ينطوي عليه من وعود مستقبلية من شأنه تطويع بعض من لا يزال خارج قبضة النظام للعودة إلى سلطته، كما أن الانتقال من الحديث عن مكافحة الإرهاب إلى الكلام عن الإعمار يبدو منسجماً من وجهة نظر داعمي النظام مع التبدل في الأولويات لدى الغرب، ومن شأنه بالتالي استقطاب رؤوس الأموال وصولاً إلى التعويم المبتغى للنظام. ومهما تشعب التنظير، فإن التطرق إلى حاجات المواطن المنكوب والذي دفع أغلى الأثمان للتعبير عن مظلوميته ليس الشغل الشاغل هنا بتاتاً، بل إن «إعادة الإعمار» هي العودة، وبصيغة أكثر صرامة وشدة وتصلباً، إلى ماضي الاستبداد. ولا بد من الكشف عن الخبث الذي تبديه كلّ من دمشق وموسكو وطهران في السعي إلى ذلك.