في شهر يناير عام 2017، وصل قطار شحن إلى باركينغ في شرق لندن، حاملاً 44 حاوية من الملابس والحقائب لتباع في متاجر هذه المدينة الفخمة، وما كان هذا الحدث ليحمل أي أهمية استثنائية لولا واقع أن القطار انطلق قبل 18 يوماً من مدينة ييوو التي تبلغ مستويات التلوث فيها نسباً عالية جداً في قلب مقاطعة جيجيانغ في الصين. شق هذا القطار طريقه عابراً كازاخستان، وروسيا، وروسيا البيضاء، وبولندا، وألمانيا، وبلجيكا، وفرنسا قبل أن يخرج من نفق القناة ويبلغ أرض إنكلترا الخضراء الجميلة. وهكذا وسط الكثير من التهليل، أصبحت لندن المدينة الخامسة عشرة التي ترتبط ببرنامج «حزام واحد طريق واحد» الصيني، الذي يجسّد في القرن الحادي والعشرين طرق الحرير القديمة، تلك المجموعة من الدروب التجارية التي ربطت أعداداً كبيرة من الشعوب والأماكن من مختلف أنحاء الكتلة القارية الأوراسية بغرب أوروبا وتركت بصمة لا يمكن محوها على الحضارة العصرية.

يذكر بيتر فرانكوبان، بروفسور متخصص في التاريخ العالمي في جامعة أكسفورد، أن التحدي الذي يواجهه اليوم المؤرخ أو مراقب الشؤون المعاصرة يكمن في رؤية «الصورة الكبرى»: فهم الطرق التي يترابط بها العالم وتقديم «وجهة نظر أكثر دقة» عن المشهد العالمي. تشمل مزايا كتابات هذا البروفسور قدرته على الرسم على هذه اللوحات الكبيرة بلمسة ماهرة رائجة. ويستهل فرانكوبان كتابه الأخير برجوعه إلى اللحن الرئيس في فيلم ديزني «علاء الدين» لعام 1993، «عالم جديد بالكامل»، كي يوضح ما يراه كتحول جيو-سياسي جذري في الحقبة المعاصرة والذي يتمثل في انتقال لا يمكن العودة عنه في موازين القوى من مجتمعات الأطلسي إلى «جزر العالم» في أوراسيا، التي ترتكز قوة التنمية المحفزة فيها على نهوض الصين القوي الهائل.

Ad

يعتبر فرانكوبان أن هذه لا تشكّل ثورة بقدر ما هي مراجعة لحقبة سابقة مثلت فيها طرق الحرير القديمة، التي ربطت إمبراطوريات الهان، وبيزنطة، وفارس، الشرايين الحضارية الأكثر أهمية في العالم. وقد شكّلت موضوع كتابه الذي حقق أعلى المبيعات بعنوان «طرق الحرير» وعمله الأخير، الذي أبصر النور كمقدمة لطبعة جديدة، إلا أنه تحوّل إلى جزء ثان تابع فيه فرانكوبان سرد القصة وصولاً إلى يومنا هذا.

تضم اليوم التفسيرات، التي تعلل تنامي أهمية أوراسيا، غناها بالمعادن، والوقود، والأطعمة، وغيرها من الموارد. يقع نحو 70 في المئة من احتياطي النفط العالمي و65 في المئة من احتياطات الغاز الطبيعي في الشرق الأوسط، وروسيا، وآسيا الوسطى، كذلك تنتج السهول والسهوب ذاتها أكثر من نصف القمح في العالم، في حين تقدّم آسيا الجنوبية نحو 85 في المئة من الأرز العالمي. أما مَن يتطلعون إلى مستقبل العالم من منظار عالم الإنترنت والذكاء الاصطناعي، فيغفلون بالتأكيد عن أهمية المواد الخام الحيوية بالنسبة إلى التكنولوجيا العصرية، مثل السليكون (يتوافر نحو 75 في المئة من هذه المادة في روسيا والصين).

في الوقت عينه، يشمل تدفق المال الأوراسي غرباً الاستحواذ على مؤسسات ثقافية مثل الصحف، والمعالم الهندسية البارزة، أو نوادي كرة القدم، فضلاً عن أنه يؤدي إلى خلل كبير في أسعار العقارات من لندن إلى فانكوفر.

في الهند والصين، تتفوق الطبقة الوسطى المتنامية بلا هوادة على أي تحوّل مشابه شهده الغرب خلال الثورة الصناعية. على سبيل المثال، تفتتح سلسلة ستارباكس مقهى جديداً في الصين كل 15 ساعة، بالإضافة إلى ذلك، نرى في هذا البلد عطشاً لا يُروى إلى النبيذ الفرنسي، حتى إنه يبتلع كروماً بأكملها، وتحتل المخابز المرتبة الثانية فيما يضارب المستثمرون على فرص سوق محتملة، وخصوصاً مع ابتعاد الصينيين عن نظام غذاء يقوم على الأرز، وعلينا أن نفكّر أيضاً في تأثير ذلك على السياحة العالمية، علماً أن 5 في المئة فقط من الصينيين يحملون راهناً جوازات سفر.

لكن الكتاب يشد انتباهنا حقاً عندما يصف ممر آسيا الوسطى الناشط اقتصادياً والمتعثر سياسياً الذي قلما يزوره الغربيون. تجني جمهوريات آسيا الوسطى، مثل أذربيجان، وتركمانستان، وأوزبكستان، وطاجيكستان، وقيرغيزستان فوائد مجموعة من الأعمال التنموية، من عائدات مبادرات الحزام والطريق الصينية التي تُعنى بالبنى التحتية والتي تصل قيمتها إلى مليارات الدولارات إلى اكتشاف حقول غاز جديد ومصادر معادن أخرى مثل النحاس والزئبق.

لكن التوجه المفاجئ حقاً في هذه المنطقة ولادة مشاريع تعاون كبرى بين أمم اعتادت تاريخياً النظر إحداها إلى الأخرى بريبة، من خط أنابيب الغاز عبر الأناضول (الذي تدعمه حركة طالبان بحد ذاتها) إلى مشروع طاقة آسيا الوسطى- جنوب آسيا. صحيح أن الأوزبك والكازاخ يعربون خصوصاً عن حماستهم لهذه العلاقة المميزة المتفتحة، إلا أننا نشهد الكثير من جهود التعاون الأخرى، مثل المؤتمرات الإقليمية التي تُعقد لحل الوضع القائم حالياً والمتنازع عليه قانونية في بحر قزوين الغني بالنفط.

في المقابل، يبدو فرانكوبان أقل إيجابية في عرضه تحديات السياسة الخارجية المعاصرة التي يواجهها الغرب و»اللعبة الكبرى» التي تخوضها اليوم الولايات المتحدة والصين. صحيح أنه يشير إلى انتهاكات حقوق الإنسان، وكليبتوقراطية النظام، ونقاط الضعف الاقتصادية التي يواجهها عدد كبير من دول طرق الحرير، إلا أنه يغالي بعض الشيء في تفصيله الخطين المنفصلين بين الغرب الذي يميل إلى «فك الارتباط والسير منفرداً» وأوراسيا التي تعوّل على «تعميق الروابط ومحاولة العمل معاً». نتيجة لذلك، يقلل هذا البروفسور من شأن أحد التطورات الأكثر أهمية في حقبة ما بعد الحرب الباردة (بناء روابط أقوى بين الولايات المتحدة والهند) كي يتناسب ذلك مع هذه الرواية الأشمل عن الابتعاد عن الغرب.

على نحو مماثل، يفترض فرانكوبان أن موقف إدارة ترامب الأكثر تشدداً من الصين في مسائل إيران، والتجارة، أو الأمن عبر الإنترنت يشكّل استدارة خاطئة مع توافر سيناريو أكثر تعقلاً (وإن كان أكثر إزعاجاً) قد يؤدي إلى بعض النجاح، ولكن في عصر الحزام والطريق، لا أحد في الغرب يملك الإرادة، والمخيلة، أو الوسيلة لتطوير ما يشبه خطة مارشال التي ساهمت في إعادة بناء أوروبا بعد الحرب. نحو نهاية الكتاب، نقرأ اقتباساً معبّراً من رئيس وزراء كمبوديا هون سين يعكس بوضوح هذا الواقع الجديد:»تملك الدول الأخرى الكثير من الأفكار إلا أنها تفتقر إلى المال، لكن الصين، عندما تطرح الفكرة، تؤمن لها المال في الحال».