«البريكست» وأوروبا الطبيعية البغيضة

نشر في 30-12-2018
آخر تحديث 30-12-2018 | 00:00
 أميركان إنتريست تقترب لعبة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي الكبرى بسرعة من مراحلها الأخيرة، ولم ينجح أحد في وصف هذه العملية الضخمة بطابعها غير الجدي الذي لم تتخلص منه بعد بمهارة بقدر سفير المملكة المتحدة إلى الاتحاد الأوروبي إيفان روجرز. في محاضرته الأخيرة بعنوان "تسعة دروس" في ليفربول، لم يصف روجرز خروج بريطانيا بهذه الكلمات بالتحديد، لكن حكمه يشير بكل وضوح إلى غياب الجدية المطلق على أعلى المستويات. ذكر روجرز: "عانت المناظرة خلال الأشهر الثلاثين الماضية غياب الشفافية، والغرق في الأوهام، والكذب من كل الأطراف"، ولا شك في أن هذا يحتل المرتبة الأولى بين التصريحات الملطفة هذه السنة.

يقدّم خروج بريطانيا هذا لمحة عن أوروبا الطبيعية البغيضة، إذ يتمحور تاريخ أوروبا طوال ألفي سنة حول التصالح مع كم كبير من السياسات في مساحة ضيقة جداً، وهذه قصة محاولات مذعورة لكنها عقيمة لنشر الاستقرار في قارة غير مستقرة بطبيعتها.

لكننا نتحدث هنا عن بريطانيا وعن البريطانيين: شعب عملي جداً وأمة تجار بضاعتهم الرئيسة مجموعة متنوعة من التعقل والمنطق.

إذاً، لمَ ضيّع بلد عريق مماثل حبكته في قصة بالغة الأهمية إلى هذا الحد؟ يكمن في هذا السؤال الجوابُ لمعنى كل ذلك على نطاق واسع، ولا ترتبط المسألة بكل الدوافع الملائمة التي عددناها سابقاً، بل تتمحور حول طريقة تفكيرٍ فُقدت في كل أرجاء أوروبا، حوّل تعوّد الحصول على الأفضل، والإخفاق في إدراك مدى هشاشة الوضع الذي بلغته أوروبا في نظام عالمي متبدل وسوء تقدير المخاطر، وما قد تخسره أوروبا، كما تدور أيضاً حول تهور الاستراتيجية وسوء الحظ الجغرافي، والشعور بالإهانة للخروج من العرض الرئيسي العالمي إلى عرض جانبي، وحول اصطدام التفاخر الثقافي (والإثني) بقوى السوق في آسيا، واحتياطات اليد العاملة المتنقلة في إفريقيا، وشدة فظاظة تاجر سيارات مستعملة كتلك التي يعرب عنها ترامب، كذلك ترتبط بالعجز عن إدراك أن الاتحاد الأوروبي في بروكسل لا يُعتبر وحشاً مهولاً بل آلة تنظيف ووسيلة لتبديد الصراعات لا جاذبية لها، إلا أنها تساعدك في إخراج تلك الأمور البغيضة من جهازك بواسطة ذلك الشيء المريع المتمثل في التسويات النابعة عن الإجراءات المتبعة. وأخيراً، هذه قصة استياء الأوروبيين من تلك الأمور البالية التي تجعلهم أثرياء وأحرارا وتشمل التسويات الباهتة، والسياسات الوسطية الباهتة، والقمم الباهتة (والمزيد من القمم)، إلى جانب المعاهدات والإصلاحات والمؤسسات الباهتة.

يكمن في كل هذا أيضاً ذلك العامل الآخر الذي لا يمكننا المغالاة في وصفه وهو السأم، فما من مسألة توضح لؤم بعض خطابات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (وخصوصاً في مسألة أيرلندا) أفضل من السأم والضجر المطلقين اللذين يعرب عنهما أبطال هذه القصة، فالسأم والضجر وحدهما يولّدان تحجراً من هذا النوع، ولا يناسب كل ما هو باهت وفاتر هؤلاء الناس، فإن اللعب العظيمة وحدها ترضيهم عبر التلاعب بأرواح الآخرين وقوتهم. كذلك يجب أن تبدو لعبتهم هذه قائمة على مبادئ مجردة مع أنها فارغة من أي معنى ملموس، ويلزم أن تكون قاسية على نحو عظيم، وأن تحدد بوضوح مَن مِن حقه اتخاذ القرارات، ولكن بريطانيا ليست الوحيدة التي شهدت تزاوجاً متناغماً بين منوّري الطبقة العليا والمنوّرين الشعبويين نجم عنه ائتلاف كبير ممن يدعون أنهم "وحدهم يمثلون الشعب الحقيقي".

لطالما كانت أوروبا قارة بغيضة سياسياً، لكننا نسينا كل هذا لأن الأمور كانت تسير على خير ما يُرام، ولكن اليوم مع تلهي الولايات المتحدة وتغلغل روسيا عميقاً في أوروبا وانهيار معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى وسأم أوروبا من الدستور الذي وضعته لنفسها، لن تبقى أوروبا بغيضة فقط، بل ستبلغ أيضاً مستوى من البغض لا ينافسها فيه أحد.

قد تحدث هذه التطورات بسرعة، وهذا ما تُظهره كل الإشارات بوضوح، وستكون عندئذٍ مسألة واحدة أكيدة: لن تظل أوروبا مكاناً مملاً، وقد يُعتبر هذا أسوأ خبر على الإطلاق.

* (جان تيشو)

back to top