أوروبا وعام الدفاع عن النفس

نشر في 30-12-2018
آخر تحديث 30-12-2018 | 00:00
بقيادة دونالد ترامب، قالت الولايات المتحدة كلمة الوداع وانهار النموذج الاجتماعي التقليدي لأوروبا دون اقتراح أي بديل، وليس الحنين إلى الماضي الأسطوري، أو النموذج الصيني السلطوي هما البديلين الناجعين لهذا النموذج.
 بروجيكت سنديكيت من المنظور الأوروبي، ستكون سنة 2019 عاماً آخر عصيباً، تسيطر عليه تحديات كبرى يمكنها أن تتحول إلى أزمات خطيرة، وما عدا إن اتخذت الأحداث مجرى عكسيا، فستنسحب المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي في 29 مارس، وستزداد الأزمة الاقتصادية والمالية المطردة حدة في إيطاليا، مما سيشكل تهديدا لمنطقة اليورو، وستواصل الاحتجاجات الشعبية لإزعاج فرنسا، مما من شأنه أن يضعف قدرتها على أخذ دور القيادة في مواصلة الإصلاحات على مستوى الاتحاد الأوروبي.

كما أن انتخابات البرلمان الأوروبي ستسفر في مايو عن أغلبية قومية أو شبه قومية، وسيحدد هذا الأعضاء المقبلين للجنة الأوروبية، وقادة المجلس الأوروبي والبنك المركزي الأوروبي والمسؤولة عن الشؤون الخارجية والأمن في الاتحاد الأوروبي، ولا داعي لقول أن انتصار القومية ستكون كارثة بالنسبة للاتحاد الاوروبي، لأنها ستعرقل الإصلاحات الضرورية وستحدث انقسامات بين الدول الأعضاء.

ومهما حصل، فإن الأحداث السياسية الداخلية لأوروبا ستمر بظروف تتسم بفوضى دولية، إذ بينما تعزز روسيا عدوانها على أوكرانيا الشرقية، يشن الرئيس الأميركي دونالد ترمب حربا تجارية ضد الصين، وقد يمددها نحو الاتحاد الاوروبي (الذي يعتبره خصما)، وعلى نطاق أوسع، يشهد الاقتصاد العالمي تراجعا، وسيستمر النمو في التباطؤ في الشهور المقبلة.

وأمام هذه التحديات المتوقعة، يواجه استمرار المشروع الأوروبي خطرا يهدده، وبخصوص البريكست، فهو يعتمد كثيرا على ما إذا كان سيتم الانسحاب بطريقة منظمة أو عشوائية. وفي الحالة الأخيرة، سيتضرر جزء كبير من العالم، وستتسمم العلاقات بين بريطانيا وبين الاتحاد الأوروبي لفترة طويلة. ولا يتمنى أي طرف يُطِل على بحر المانش أن يحدث هذا. إن الحياة تستمر بعد الانفصال، ومن مصلحة كلا الطرفين أن يحافظا على علاقة جيدة بينهما، ونأمل أن تنتصر في الأخير الفطرة السليمة.

وفيما يتعلق بالبريكست، لا يمكن لقيادة الاتحاد الأوروبي في بروكسل حل الأزمة الإيطالية، لكن يمكنها، بل ينبغي عليها أن تقدم يد المساعدة، فإيطاليا تحتاج إلى النمو، وهذا يتطلب تحديثا واسع النطاق لاقتصادها، وللأسف، فحكومتها الحالية لا تعتمد سياسات تَصُب في هذا الاتجاه، وعوض ذلك، افتعلت مواجهة بشأن قوانين ميزانية الاتحاد الأوروبي، وسيضطر الاتحاد الأوروبي إلى إظهار المرونة، وفي نفس الوقت دعم المبادئ التي تعزز استدامة الاتحاد المالي، وهذا يشير إلى أن مفاوضات طويلة وموجعة تنتظرنا في المستقبل.

وفي فرنسا، عَبَّر "أصحاب السترات الصفراء" عن مطالبهم التي تتعلق معظمها بالاقتصاد، وبدأت مظاهراتهم في الشارع احتجاجا على الضرائب المعلنة على الوقود. وشملت الاحتجاجات أيضا عناصرا "قومية" استغلت مشاعر الغضب بشأن فقدان أنماط الحياة التقليدية في عصر العولمة والاندماج الأوروبي. وكما هو الحال في معظم الدول الغربية، تنتشر هذه المشاعر بنسبة كبيرة وسط المصوتين المنحدرين من الطبقات التقليدية العاملة والمتوسطة الذين استنتجوا أن العقد الاجتماعي لما بعد الحرب العالمية الثانية لم يعد صالحا، إذ لم يعد العمل الشاق يضمن الأمن الاقتصادي وقدرة الانتقال إلى طبقة اجتماعية أعلى.

استعادة الثقة

ولن تستعيد النخبة الغربية ثقة الشعب حتى تتفاعل مع فقدان هذه الثقة، التي بدونها لن تتمكن الديمقراطية ومؤسساتها الجوهرية من العمل، وما يزيد الطين بلة، هو تحول التوازن العالمي من الغرب إلى الشرق بشكل سريع، وتزايد حدة أزمة المناخ، بالإضافة إلى أن التكنولوجيا الرقمية الجديدة تغير نمط حياتنا وطرق عملنا، وتزيد موجات الهجرة واللاجئين من فتيلة ردود الفعل القومية العنيفة.

لكن إذا كان لدى القوى الشعبوية برنامج يُمَكن هدفها- دولة قومية تقليدية- من معالجة هذه التحديات المتزايدة، فإنها تُبقي الأمر سرا. وفي الواقع، فإن "أوروبا موحدة" فقط هي التي تستطيع القيام بهذه المهمة، ولهذا السبب تكتسي الانتخابات الأوروبية التي سَتُجرى العام المقبل أهمية كبيرة، وإذا انتصرت الشعبوية، فستخسر أوروبا.

وما يزيد الطين بلة هو أن معظم التغيرات الكبرى التي عرفها النظام الدولي خلال العقود الأخيرة الماضية كانت على حساب أوروبا، إذ أدى صعود الصين وثورة الذكاء الاصطناعي إلى تراجع أوروبا نحو الهامش، وإلى هذه الساعة، أوروبا غارقة في سباتها، وإن لم تستفق بسرعة، فستضيع فرصة استغلال قوى التغيير لمصلحتها.

إن عهدا جديدا قد بدأ، وسيتضح هذا أكثر فأكثر خلال العام المقبل، ولا يمكن للنقاشات الأوروبية التقليدية بعد اليوم الاستهانة بقوة التحالف العابر للأطلسي، أو التطور المنتظم في الوصول إلى "اتحاد أكثر تقاربا". لقد قالت أميركا بقيادة ترمب كلمة الوداع، وانهار النموذج الاجتماعي التقليدي لأوروبا، دون اقتراح أي بديل، وليس الحنين إلى الماضي الأسطوري، ولا النموذج الصيني السلطوي هما البديلين الناجعين لهذا النموذج.

وستنكشف الأزمات التي تهدد أوروبا ليراها الجميع، وفي أحسن الحالات، ستكون سنة 2019 عام المناورات الدفاعية، وليس بداية لتجديد أوروبي، ولكن على المدى البعيد، سيكون الخيار الوحيد هو إعادة بناء أوروبا، وسيوضح هذا التناقض عصر الانتقال الذي لا يقبل الطرق المختصرة، أو الحلول الحاسمة.

* شغل منصب وزير خارجية ألمانيا ونائب مستشارها بين 1998 و2005، كما كان قائد الحزب الأخضر الألماني مدة 20 عاماً.

*" يوشكا فيشر"

معظم التغيرات الكبرى التي عرفها النظام الدولي خلال العقود الأخيرة الماضية كانت على حساب أوروبا
back to top