عند الأعياد تتغير الأمزجة، تكتسي السماوات بأسراب العصافير عندما لا تزاحمها الغيوم الحبلى بالمطر أو زخات البرد، يخرج البط في البحيرات وتغطي النوارس الشواطئ الرملية الممتدة أحياناً على مد البصر... تَغيُّر الأمزجة لا يلحق بالبشر فقط بل بالمدن والشوارع والأرصفة كذلك، حيث تتحول كلها إلى مزاج من الفرح، يتحول البشر أو جموع واسعة منهم إلى فرقة موسيقية كلٌّ يعزف آلة مختلفة، ولكنها جميعاً لا تستطيع أن تبعد عن عصا المايسترو فتتناغم الأجساد الجارية بحثاً عن الهدايا أو للتحضير لوجبة دسمة ارتبطت بها الأعياد.. كل الأعياد من عيد مولد المسيح إلى المولد النبوي إلى السنة الميلادية والهجرية والنيروز وعيد الفصح والفطر والأضحى والدويالي... كلها مرتبطة بالأكل والرقص والموسيقى... تختلف الأديان ولكن الفرح واحد كما الحزن لا تمزقه الأديان ولا الطوائف ولا لون البشرة ولا تختلف النساء في فرحهن عن الرجال إلا بما يميز المرأة أصلاً من أنها المخلوق الوحيد الذي يمنح الحياة. كأن البشر جزء من فرقة موسيقية، مستعدون لعزف سيمفونية الفرح، يقف المايسترو بعصاه، ويعلن: لنبدأ معاً، إنه موسم تحول الألوان إلى قوس قزح، إنه التصاق البشر وتلاحمهم حتى وإن كانوا طوال العام متفرقين بسبب الجغرافيا أو الاقتصاد، وكلاهما يسببان غربة ما بعدها غربة، وأقساها أن تكون غريباً وأنت مع أقرب من تحب ومن يسكنون قلبك!
تسرع الأرجل فلا تحملها الأجساد التي اعتادت أن تجر أيامها في طرق واحدة لا تتغير... تسير بها كل يوم نحو أمكنةٍ للعمل تحولت مع الوقت وكأنها مصانع لا تفاعل بشرياً إلا للتنافس، ثقافة عمل جديدة نشرها المستفيدون... ربح وربح وربح وأيدي عاملة أرخص وأرخص فيما العشرة الكبار يكدسون الأوراق هنا وهناك. الأعياد تعني الخفة... خفة في المشي، والحركة والترحال والتجول والشراء والتبضع، وأيضاً الخفة في الحب، ألا يقولون إنه "حب في زمن الأعياد"، لا يدوم فيرحل سريعاً كما ورق "السولفان" قصير العمر رغم بريقه الناصع!تسرع العربات جارية ويرقص المارة التانغو الجماعي على أرصفة تزدحم بأشجار الميلاد وأكياس القمامة المليئة للمرة الأولى هي الأخرى بألوان الأعياد من ورق الهدايا الذي مزقته الأيدي سريعاً شغفاً بهدية تختفي بين الورق الأحمر أو الذهبي وكثير من العلب... حتى القمامة في الأعياد تتغير، تتلون تبعد عن تلك الألوان الكئيبة لبقايا طعام أو....!! وتتحول إلى أكياس حبلى ببقايا هدايا خلقت شيئاً من البهجة على وجه طفل أو رجل أو امرأة حتى لبضع لحظات. خلف النوافذ بتلك العمارات الشاهقة أو البيوت المتراصة، موائد عامرة بكل ما لذ وطاب من الديك الرومي إلى الخروف المحشي، حسب أين تكون وفي أي مدينة أو أي عيد... لكل عيد ضحاياه أيضاً من الحيوانات والطيور ومن البشر ! ألا يتجاور الفرح مع الحزن؟ تربض المقابر ثقيلة ملتصقة بصالات الأفراح وساحات اللعب؟ في الأعياد تصل حالات الفرح عند البعض إلى "النرفانا" أي أعلى الدرجات، وهنا إما أن تشرق الشمس فتعيد الأيام إلى مقاماتها، أو ينتقل أحدهم من الصالات العامرة بالموسيقى والرقص إلى ما تحت التراب!تفرغ الغيوم حملها من المطر ودرجات الحرارة إلى ما دون الصفر، تتجمد حبة المطر في نزولها، وما إن تلتصق بالأرض الدافئة حتى تعود إلى انسيابها المائي... يسرع المارة خوفاً من هذا الصباح الشديد البرودة والمطر رغم أنهم يعلمون أن الأعياد لا تكتمل دونه... دون طقوس تضيف دفئاً وشيئاً من التجديد.تلتصق الأجساد أكثر عندهم، فيما نحن لا نزال نخاف أجسادنا في العلن وفي السر، لا نفكر إلا بها! يلتحم بعضها مع بعض، فينتشر دفء القلب لتتقاسمه الأجساد المتعبة... يزداد المطر فيختبئ اثنان تحت شجرة أو عند ظل عمارة أو تمثال... يفتح معطفه هو ويدخلها كأنه يقول تعالي فلا عيد دون حبك، ولا أعياد دون دفئك... تعالي نحتفِ معاً بكل الأعياد، لا أعين متلصصة هنا، ولا مارة يهمهم ما يفعل الاثنان من طقس هو أعلى من مستوى الشبهات. هو العيد بل الأعياد، افتحوا نوافذكم وأشرعوها لكثير من المطر وبعض الحب المعتق في رحم غيمة.* ينشر بالتزامن مع "الشروق" المصرية
مقالات
طقس للأعياد
31-12-2018