أميركا أولاً... نهج يضع سورية آخراً

نشر في 02-01-2019
آخر تحديث 02-01-2019 | 00:00
 بروجيكت سنديكيت لا يوجد في الشرق الأوسط أي صراع يتسم بمثل هذا القدر من التعقيد الذي يتفرد به الصراع المحتدم في سورية، فتشمل المعركة التي تدور رحاها هناك حكومة معاكسة تماما للقيم الغربية، وتمردا سُنّيا متطرفا استولى عند مرحلة ما على الأراضي الحدودية الواقعة بين سورية والعراق وشق طريقه مقاتلا حتى بوابات بغداد، والواقع أن الرهان على هذه الحرب مرتفع إلى الحد الذي جعل مجموعة متنوعة من القوى الأجنبية تنجذب إليها جميعها.

بيد أن الحروب التي تُخاض في سورية عديدة في حقيقة الأمر، وأحد الصراعات الدائرة هناك ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، معروف جيدا لدى الجمهور الأميركي، أما الحرب الأكثر تعذرا على الأفهام فهي تلك التي تستهدف خلافة بيت الأسد، الذي حَكَم البلاد كأسرة علمانية لما يقرب من الخمسين عاما، ويشمل صراع ثالث أكراد شمال سورية، الذين انضموا إلى الولايات المتحدة في محاربة تنظيم "داعش" لكن جهودهم أثارت المخاوف بين القادة الأتراك من أن تُفضي تطلعات السكان الأكراد في سورية إلى تشجيع الأكراد في تركيا.

والآن، أضف إلى هذا الصراع المتعدد الجوانب رئيسا أميركيا لا يشعر بالارتياح إزاء الفوارق الدقيقة والتفاصيل. الواقع أن دونالد ترامب لا يملك عقلية أممية ولا يفهم الرسالة التي تنقلها القوة الأميركية، ولكن في حين كان من الممكن أن يُغفَر لترامب زعمه بأن مصلحة أميركا الوحيدة في سورية كانت إلحاق الهزيمة بتنظيم داعش، فإن قراره الأخير بسحب كل القوات الأميركية لا يمكن تبريره.

من الواضح أن قرار ترامب سيشجع بشار الأسد، الذي كان حكمه لسورية كارثيا، فقد أظهر الأسد على نحو ثابت عجزه عن الإبحار عبر التعقيدات التي تحيط بالأزمة، بما في ذلك التحول السريع إلى حياة الحضر والمدن، وما ترتب على ذلك من اتجاه السُنّة الريفيين النازحين بفِعل تغير المناخ إلى التطرف؛ وحضانة السُنّة المتطرفين في العراق المجاورة في خضم محاولات توطيد السلطة السياسية الشيعية في بغداد؛ ونمو المشاعر القومية الكردية في المنطقة.

لكن الأسد كان يعلم من ينبغي له أن يدعو لمساعدته في الإبقاء على قبضته على السلطة، فكان ضخ مجموعات روسية وإيرانية وشيعية إقليمية كافيا لتحويل المد لمصلحته، وقد أعطى هذا نظامه فرصة جديدة للحياة في منطقة ليست معتادة على منح القادة فرصة ثانية، ومع ذلك، يبدو الأسد، مثله في ذلك كمثل البوربون الفرنسيين، وكأنه لم يتعلم أي شيء ولم ينس شيء خلال ثمانية عشر عاما قضاها في السطلة، ومن غير المرجح أن يذهب إلى تعزيز انتصاره المزعوم بتقديم الهياكل غير الفدرالية اللازمة لحكم سورية بشكل فعّال.

كانت سياسة الولايات المتحدة في سورية تستند لفترة طويلة على ركيزتين: الاستقرار في العراق وهزيمة داعش، وقد عملت القوات الأميركية في عهد الرئيس باراك أوباما، ثم لفترة وجيزة في عهد ترمب، مع المقاتلين المحليين لتركيع داعش، لكن على النقيض من ادعاءات ترامب، لم ينهزم تنظيم داعش ولم يمت؛ وفي غياب مؤسسات قابلة للحياة وترتيبات سياسية مستقرة في سورية، فمن المرجح أن يعود التنظيم في هيئة أو أخرى.

بدلا من التصرف الأحادي الجانب، كما فعل بوضوح، كان من الواجب على ترامب أن يطلب من فريق العمل التابع له المعني بالسياسة الخارجية توضيح عدد من الأسئلة الشائكة، فما الفصل الختامي الذي ينبغي للولايات المتحدة أن تسعى إليه في سورية؟ ونظرا للدعم الذي يتلقاه الأسد من روسيا وإيران وتركيا، فإلى أي مدى قد يكون رحيله محتملا؟ وأي الحلول السياسية قد تكون في حكم الممكن؟ وهل الانتخابات ممكنة أو مرغوبة في سياق خال من أي مؤسسات عاملة؟

ولكن حتى مجرد طرح مثل هذه الأسئلة البسيطة بدا وكأنه خارج إطار قدرة ترامب ونطاق خبرته، فبدلا من طرح أي أسئلة، اختار ترامب إعلان النصر والرحيل، ويتناسب هذا القرار، والانسحاب المتوقع من أفغانستان وربما من أماكن أخرى، مع نمط مألوف: فالمشاركات الأميركية مع العالَم غالبا ما تسترشد باعتقاد غير ناضج وسابق للأوان بأن الهدف قد تحقق.

لكن الانسحاب من سورية أكثر وضوحا من أغلب مثل هذه القرارات، لأن من أمر به رئيس أميركي من الواضح أنه ليس لديه أي إدراك لأفعاله أو تبعاتها، فضلا عن عجزه عن قياس أفعاله على دروس التاريخ، فالحقائق ليست معرفة، والمعرفة ليست حكمة، ولكن من منظور ترامب للعالَم، ليس هناك مجال ببساطة لفكرة مفادها أن التاريخ من الممكن أن يُعَلِمُنا وربما يتكرر، أو أن هناك روابط بين العديد من التحديات الأمنية الأكثر إلحاحا التي تواجه العالَم، سواء كانت سورية، أو روسيا، أو إيران.

يُنظَر إلى السياسة الخارجية الأميركية عادة على أنها تفويض ليس لصرامة الرئيس وحسمه فقط، بل لمسؤوليته عن استخدام كل الموارد المتاحة تحت تصرفه في التصدي لأمور تتعلق بالدولة والأمن الوطني والتي قد لا يراها أو يدركها عامة الناس، لكن في حالة ترامب، لا يوجد أي شيء من هذا، بل يُصَوَّر كل التهديد والوعيد والتبجح والأخطاء الفادحة المرئية للجميع على أنها نتاج لدراسة متأنية وعبقرية استراتيجية.

*كريستوفر ر. هِل

*مساعد وزير الخارجية الأميركي الأسبق لشؤون شرق آسيا، وهو كبير مستشاري مستشار المشاركة العالمية، وأستاذ الممارسة في الدبلوماسية في جامعة دنفر، ومؤلف كتاب «المخفر الأمامي».

«بروجيكت سنديكيت، 2018» بالاتفاق مع «الجريدة»

back to top