أخافتني جداً جداً دراسة أجراها: أستاذ التربية د. وفقي حامد، وأستاذ المناهج وطرق التدريس د. عبدالرحمن الأحمد، بعنوان: "الاتجاه نحو الغش الدراسي والعوامل المؤثرة فيه من وجهة نظر عينة من طلبة التعليم العالي في الكويت"، وقد نُشرت أجزاء من الدراسة يوم الجمعة 28 ديسمبر الماضي، كموضوع رئيسي في جريدة "القبس" الكويتية، والتي شملت عينة مكونة من (2000) طالب، وكان "مانشيت" الدراسة اللافت: "53% من الطلاب يرون الغش حقاً مشروعاً!" توقفت كثيراً قبل قراءة تفاصيل الدراسة، وتمنيت أن أكون مخطئاً، أو أن هناك مبالغة صحافية. لكن، حين طالعت الدراسة أشارت بشكل واضح إلى أن ما يزيد على نصف طلبة العيّنة "يرون الغش حقاً مشروعاً"، وأظن أنه لا يمكن أن تكون هناك عبارة أكثر خطراً على المجتمع الكويتي من هذه العبارة القنبلة!نعم، قنبلة مدوّية ومدمّرة تنتظر مجتمعنا، إن لم يتم تدارك الموضوع، وإن لم يتم اعتبار هذه الدارسة مؤشراً خطيراً على مستقبل الكويت؛ مستقبل الكويت الأخلاقي، والعلمي، والاجتماعي، فإذا كان ما يزيد على نصف الطلبة يرى أن الغش حق مشروع، فكيف بهذا النصف وهو أم وأب المستقبل؟ وكيف بهذا النصف حين يصل إلى موقع المسؤولية؟ وكيف بهذا النصف المخيف أن يقود المجتمع في القادم من الأيام؟
ربما كنتُ في الخامسة عشرة من عمري، وكان بيتنا وقتئذ في منطقة "شرق"، وفوجئنا بسجن أحد الجيران بتهمة الاختلاس، رجل في عمر الأربعين. لكن المفاجأة الأكبر كانت يوم معرفتنا بأنه انتحر في السجن، فلم يحتمل الفضيحة، وأن يُشهّر به وعائلته. وكان سلوك الرجل مبرراً في مجتمع قامت العلاقة بين أبنائه تاريخياً على الثقة، واحتلت كلمة "تمّ" كوعد، وكلمة رجل، احتلت هذه الكلمة جزءاً ساطعاً من تاريخه بتعاملات مالية واجتماعية وإنسانية، كانت وستبقى مثالاً ساطعاً لتربية الإنسان، وصدق الإنسان، وممارسته الحياتية. لكن، الأمر اختلف تماماً، وصرنا للأسف نقرأ كل صباح أخبار الفساد، وأخبار السرقات، وأخبار الاختلاسات، وأخبار العمولات الملياديرية، وأخبار القضايا، وأخبار صدور أحكام الإدانة والإحالة إلى النيابة، وأخيراً أخبار الهروب من الكويت.في كل مجتمع هناك الصالح والطالح، لكن وفي كل مجتمع، وعبر مسيرة التاريخ الإنساني، كانت نسبة الطالح أقلية قليلة قياساً بالصالح. وعبر مسيرة التاريخ الإنساني لم يكن مقبولاً ولا مُسوّغاً الجهر بممارسة الغش. من المؤكد أن في الأمر خللاً كبيراً ومخيفاً حين ينظر أبناء مجتمع ما، فئة الشباب الدارس في المراحل الدراسية العليا تحديداً، إلى الغش بوصفه "حقاً مشروعاً"، وأن يوافق "52.9%" منهم على أنه سلوك لا يوقع الضرر على الآخرين بشكل تام، بينما يرى "50.3%" أنه نوع من التعاون بين الطلبة. ويبدو الأمر لافتاً جداً أن يوافق تماماً ما نسبته "45.9%" على أن الغش ليس سلوكاً انحرافياً، ويتفق "44.9%" على أنه ينبغي التسامح مع الطالب الذي يغش. وكم تبدو الدالة صارخة وفاضحة حين يوافق "66.4%" على أن "الواسطة تحرم البعض من حقوق مشروعة لهم، فيلجأون إلى الغش لتعويضها"، وهذا منسجم تماماً مع اتفاق "52.9%" على "أن المجتمع لم يرفض سلوك الغش، ولا توجد ضوابط رادعة للغشاشين في المجتمع".أرعبني وصعقني أن نصف طلبة العينة يرى الغش حقاً مشروعاً، وأن قرابة النصف الآخر يرى ضرورة مسامحة الغشاش. ولا يمكن فصل ذلك عن كون هذه القناعة لدى طلبة دراسات عليا، وأن من بين هؤلاء من سيكون خلال سنوات: مدرِّساً، أو مهندساً، أو طبيباً، أو موظفاً في أي من مرافق الدولة، أو عضو مجلس أمة، أو وزيراً! وأترك لكم أن تتخيلوا ما سيكون عليه حال مجتمعنا وسط عيش الغش والغشاشين!هذه دراسة خطيرة وخطيرة جداً، هذا ناقوس خطر عالي الصوت، ويجب التحرك الفوري على كل المستويات الأسرية والشعبية والرسمية، للحد من هذه الظاهرة، بل أرى أن الموضوع بأهميته وآثاره المدمرة يستحق بجدارة أن يُعقد له مؤتمر وطني، أو ندوة موسعة، ويكون الطلبة هم الحضور الأهم فيها، للوقوف على الأسباب الحقيقية لهذا الداء العضال وكيفية علاجه... ومنا لمعالي وزير التربية والتعليم العالي الدكتور حامد العازمي، ولكل مسؤول غيور على وطننا الغالي.
توابل - ثقافات
ثقافة الغش!!
02-01-2019