تحوَّلت الفواصل الإعلانية في التلفاز إلى كارثة، وأخص ما يحدث داخل الدراما التي يفترض فيها التواصل الذهني وتراكم التأثير النفسي. ولنحاول النظر إلى القصة من أساسها.المادة التي تعبئ تلك الفواصل هي إعلانات تجارية عن منتجات، لكنها تختلف كل الاختلاف عن إعلانات الصحف أو الشوارع؛ فإعلانات التلفاز تقتحم منزلك ووعيك على السواء، ولا تترك لك فرصة الاختيار أو الذهاب إليها تبعاً لحاجاتك، إنها تلح على عقلك إلحاح الشيطان الرجيم، لا لترشدك كيف تسد حاجتك من سلعة معينة، وإنما لتخلق بداخلك تلك الحاجة حتى إن كانت السلعة غير ضرورية. يتعدى الأمر خلق الاحتياج الوهمي لسلع كمالية إلى الترويج لسلع خطيرة مدمرة للصحة وللعقل كليهما، مثل الإعلانات البراقة عن أنواع السمن الصناعي الذي يحذر منه الأطباء، أو البطاطس المقلية والأغذية ذات النكهات الصناعية، أو ألعاب الفيديو العنيفة وغير ذلك من منتجات هي إلى الجرائم أقرب وأنسب.
يتحول الأمر إلى نوع من الاحتلال الوقح لمساحات الرؤية والعقل في مواسم المشاهدة ذات الكثافة العالية مثل شهر رمضان، والأسوأ أن الانتهاكات الإعلانية تتخلل الدراما، أو لنقل مع القائلين إن الدراما تتخلل الإعلانات بصورة تقضي على أية قيمة جمالية للعمل الفني. والأخطر أن ذاكرة الإنسان وذائقته كليهما يتحولان بسبب هذا التقطيع المرهق للمواد الفنية إلى ما يشبه المصفاة ذات الثقوب الكثيرة التي لا تحتفظ بشيء.لكن شيئاً غريباً وجميلاً حدث منذ أشهر عدة على قناة فضائية تسمى DMC، حيث تحول معظم الفواصل الإعلانية إلى مواد فنية قصيرة تعرف المشاهد بمشاهير الفن والأدب من مطربين وكتاب وشعراء وملحنين وممثلين ومخرجين ومنشدين دينيين، وتقدم مقاطع قصيرة من أغاني كبار المطربين مصورة بطريقة مغرية على الاستماع، كذلك تقدم مقاطع قصيرة من الإنشاد الديني الراقي للشيخ سيد النقشبندي ومن الشعر المميز مثل رباعيات صلاح جاهين. تابعت مندهشاً الحس الفني الرفيع لصانعي هذه الفواصل، ورغبتهم التي تظهر جلية في صنع جسر ناعم بين النماذج الجيدة من الفنون والآداب وبين واقعنا الفني والأدبي الرديء. ورغم هذه التضحية بوقت الإعلانات لصالح المواد الفنية والأدبية المحترمة، تحقق هذه القناة الفضائية نسب مشاهدة عالية جداً. ولعل هذه النسب أن تكون رد فعل من المشاهد المتعطش للفن الجميل والأدب الراقي. وكان السؤال البديهي الذي اقتحمني: لماذا لا تصرف كل القنوات خاصة الحكومية جزءاً من وقت إعلاناتها في تقديم مواد فنية وأدبية محترمة، مع العلم أن ذلك سيعود عليها بالنفع في زيادة نسب المشاهدة؟ لا شيء أكثر من التلفاز يمكنه أن يسد الفجوة الكبيرة في الذائقة الفنية والأدبية في ثقافات لا تقرأ.
توابل - ثقافات
تنوير : فاصل ونواصل
03-01-2019