تتمثل واحدة من المشاكل الرئيسة في جدالنا المتواصل حول ما تبدو نزاعات لا نهاية لها مع المتطرفين في الخارج في أننا نادراً ما نرجع الى المبادئ الأولى، ويندر أيضاً أن نرجع خطوة إلى الوراء لتحديد التحديات الاستراتيجية والتكتيكية التي تواجهنا بصورة دقيقة، وبدلاً من ذلك نحن نلجأ في أغلب الأحيان الى واضعي الشعارات من أمثال زميلي آندي ماكارثي ومايكل برندان دوفرتي (اللذين لا يوافقان على نصيحتي بالبقاء في سورية).ولنحلل تحدياتنا بوضوح ودقة بأكبر قدر ممكن.
أولاً، يوجد متطرف عدو لأمتنا وحضارتنا لا يهدف الى إلحاق الضرر بمصالحنا القومية فقط بل يسعى جاهداً الى قتل أكبر عدد ممكن من الأميركيين، وعبر أكبر قدر من العلانية، بحيث يزعزع أمتنا ويفضي الى جعلنا نفسح المجال لظهور قوة متطرفة جديدة.وثانيا، هذا العدو ليس موجوداً بسبب أعمال أميركية مباشرة وحديثة العهد بل بسبب نظرية لاهوتية قديمة، وعلينا ألا ننسى أن واحدة من المظالم التي طرحها أسامة بن لادن لتبرير هجومه على أميركا كانت إعادة غزو إسبانيا المسيحية لإسبانيا المسلمة، وكان ذلك حدث قبل نحو 300 سنة من اكتشاف أميركا.وثالثاً، فيما يصعب التنبؤ بأي هجوم إرهابي نستطيع القول إن الإرهابيين عندما يضمنون الحصول على ملاذ آمن يصبحون بشكل دراماتيكي أكثر خطورة، ومن هذا المنطلق فإن إقامة ملاذات آمنة يفاقم الخطر ويجعل الهجمات الخطرة شبه محتمة.ورابعاً، ولأسباب واضحة للغاية توجد الملاذات الآمنة دائماً في دول ومواقع إما معادية للولايات المتحدة أو في حالة فوضى عارمة، وقد تعمل الخلايا الإرهابية في أماكن مثل فرنسا، ولكن الملاذ الآمن الحقيقي لا يمكن أن يزدهر في أرض حلفاء أقوياء.وأخيراً، وهذا على قدر كبير من الأهمية، إن الالتزام القومي بالدفاع عن النفس سمة دائمة ولا يمكن لحكومة تتخلى عن واجبها في حماية مواطنيها من هجمات معادية أن تظل شرعية، والأفضل أن تتم المحافظة على الدفاع عن النفس عن طريق الردع، ولكن عندما يفشل هذا الردع فإنه لا يحقق السلام، بل يمكن العدو من قتل مواطنيك.ولهذه الأسباب كلها فإن الاستراتيجية العسكرية الأميركية على الأقل يجب أن تعمل على حرمان الإرهابيين من الملاذات الآمنة، وإبقاء الإرهابيين في حالة هرب، وعدم منحهم الفرصة للتخطيط والتجنيد والقيام بهجمات في أجواء من السلام والأمان، وعندما يحصلون على تلك الفرصة يمكنهم القيام بعمليات فظيعة ومروعة وهو ما تعلمناه من هجمات الحادي عشر من سبتمبر.ولكن المشكلة تكمن في وجود الملاذات الآمنة في أماكن معادية وتوجد صعوبة كبيرة وعملية في تكليف الحلفاء بالعمل ضد الملاذات الآمنة أو تصديق قدرتك على قتال العدو من خلال عمليات القصف الجوي فقط. وحتى الحملات الجوية تتطلب أنشطة استخباراتية على الأرض، كما أن العمليات الجوية يندر أن تكون كافية في حد ذاتها من أجل إنهاء الخطر الذي يقوم على الأرض.وما يزيد التحدي هو أنه بسبب وجود الملاذات الآمنة في أماكن معادية يندر أن تجد حلفاء على الأرض على استعداد لقتال العدو، وسجلاتنا المتعلقة بخلق حلفاء راغبين في التعاون من دون مشاركة بشكل عملي محبطة بحيث يتعين عدم محاولة القيام بها من جديد.وهكذا عندما تقرأ تقارير الأخبار حول إرسال قوات أميركية الى أماكن مثل النيجر فإن ذلك لا يعني دليلاً على الالتزام الراسخ بخوض «حرب لا نهاية لها»، بل مجرد تطبيق لدروس 17 عاماً من القتال المباشر ضد عدو متطرف. ونحن لا نستطيع السماح لأعدائنا الارهابيين (ليس كل الإرهابيين أعداء لأميركا) بإقامة ملاذات آمنة في أي مكان من دون توقع كوارث، ولكن على الرغم من ذلك لا نستطيع منع تلك الملاذات الآمنة بشكل فعلي من دون حضور على الأرض.
سورية وأفغانستان؟
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا هو ما الذي يعنيه هذا بالنسبة الى سورية وأفغانستان؟ ثم إن القول إن تنظيم داعش قد دحر الى حد كبير في شمال سورية لا يعني أنه هزم بصورة تامة، خصوصا عندما نعلم أنه لا يزال موجوداً بشيء من القوة في بعض المناطق التي تسيطر عليها قوات الحكومة السورية إضافة الى القوات الروسية والإيرانية الحليفة. ومن شأن تخفيف الضغط في الوقت الراهن توجيه دعوة الى تنظيم داعش للعودة من جديد.وإذا غادرنا وتركنا خلفنا ظروفاً وأوضاعاً تمهد لإعادة تشكيل العداوة التي خلقت الخطر في الأساس فلن نكون قد وضعنا نهاية للحرب بل أعدنا جدولتها الى موعد لاحق، وكانت تلك غلطة أساسية اقترفها الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما عندما انسحب من العراق في سنة 2011، يومها ترك أوباما حليفاً هشاً عرضة لكارثة وقعت بعد ثلاث سنوات، وأنا أجادل في أن انسحاب أوباما كان دفاعياً بقدر يفوق قرار الرئيس دونالد ترامب بالانسحاب من سورية. وكانت الجماعات المتطرفة في العراق أكثر ضعفاً في عام 2011 من المتطرفين في سورية اليوم.ويصح هذا الجانب بصورة خاصة عندما يكون الخليفة المنطقي لنفوذنا في شمال سورية أو أفغانستان إما نظام عدائي (سورية) أو القوة المتطرفة التي واجهناها منذ 11 سبتمبر (أفغانستان)، ونحن نكاد نعرف من سيهيمن في غيابنا ونعرف نواياهم العدائية.والجدير بالملاحظة أن القوات الأميركية الحالية تمكنت من احتواء الإرهابيين بجزء بسيط من التكلفة الهائلة في الرجال والعتاد التي تكبدتها في غزو أفغانستان أو العراق، وكانت الإصابات في القوات الأميركية طفيفة فيما كانت فادحة في صفوف العدو، كما كان التدخل في سورية ناجحاً بصورة خاصة. وكان الأمر وكأننا أخذنا كل الدروس التي تعلمناها من هجمات الحادي عشر من سبتمبر وطبقناها في عملية عسكرية واحدة فعالة ومدمرة.ونحن الآن نجازف في تبديد ذلك كله. ومن خلال التخلي عن الحلفاء في الميدان نضاعف الخطر الذي سنواجهه في المرة التالية إذا كنا في حاجة الى استخدام مزيد من القوات وخسارة مزيد من الرجال والنساء في التعامل مع تهديدات متجددة. وبعد كل شيء من سيرغب من الحلفاء المحليين في التضحية بدمه الى جانبنا اذا كان يعلم أننا سنتركه لمواجهة الموت؟ وأنا أوافق آندي مكارثي الرأي تماماً عندما يقول إن التدخل العسكري الأميركي في سورية غير دستوري في الوقت الراهن، وأنا جادلت في هذا الأمر مراراً حتى قبل قرار الرئيس ترامب الانسحاب من ذلك البلد، وعندما اندفع تنظيم داعش بصورة مباغتة في شمال سورية والعراق وقطع رؤوس الأميركيين وألهم هجمات مهلكة وفتاكة في الولايات المتحدة كان يتعين على الرئيس السابق أوباما أن يتوجه الى الكونغرس من أجل طلب التفويض للقيام برد على ذلك العمل لكنه لم يفعل، وكان يتعين على الكونغرس تقديم قراره والتصويت عليه لكنه لم يفعل.وذلك أمر مؤسف، إذ كان فشل الحزبين الذي حرمنا من نوع الجدال الضروري تماماً لخلق الدعم العام لنزاع متجدد. وقد أسهم ذلك الفشل في إلحاق المزيد من الضرر في نظامنا الدستوري، وعزز بقدر أكبر قوة الرئاسة الإمبريالية.علاج الفشل
ولكن علاج فشل الحزبين لا يكمن في التراجع والانسحاب بل في قرار جديد، والعلاج يقضي بقيام القائد الأعلى والحلفاء في الكونغرس بطرح القضية على الشعب الأميركي وتوضيح الاستراتيجية العسكرية المسؤولة بقدر أكبر.وبدلاً من ذلك، نحن نراكم الفشل بفشل آخر، وفي حين توجد مجادلات مفيدة مع أو ضد الوجود العسكري الأميركي في سورية علينا ألا نفكر للحظة واحدة أن الانسحاب الأميركي الحالي هو نتاج قرار من جانب قائد أعلى مفكر ومطلع. إنه تصرف متهور من جانب رجل جاهل، وفي حين سيقوم المهنيون العسكريون بعمل ما في وسعهم من أجل التخفيف من الضرر الذي سينجم عن هذا التهور والجهل فإن عملية اتخاذ القرار من جانب الرئيس ترامب لا تعني التوجه الى الحرب ولا الدفاع عن أمة.إن ادارة ترامب تتخذ قراراً سيئاً عبر عملية سيئة، وقد خسرت الأمة أبرز محاربيها احتجاجاً على ذلك، وبما أنه من المرجح أن يتطلب تجدد الخطر بعض الوقت فإن ترامب يكرر واحداً من أسوأ أخطاء سلفه في السياسة الخارجية، وأنا أتمنى ألا أرى تكراراً للعواقب الفظيعة نفسها.* ديفيد فرنش