في عام 1983 صدر كتاب "الخليج ليس نفطاً" لعالم الاجتماع الدكتور محمد الرميحي، ليصحح الانطباع السائد عن الخليج بأنه مجرد بئر بترولية، وليؤكد أنه إنسان وأرض، وحضارة وثقافة وتنمية، واستشراف للمستقبل. وفِي ديسمبر 2004 كتب السفير عبدالله بشارة، أول أمين عام للتعاون، يقول: "الخليج هو الجزء السليم الصحي في الجسم العربي"، وذلك بمناسبة مرور ربع قرن على قيام مجلسه.يستقبل الخليج اليوم عاماً جديداً، وقد مر على إنشاء مجلسه 38 عاماً، وعلى الأزمة التي تكاد تعصف بكيانه، عاماً ونصف، ولا يزال الحل متعثراً، فهل لا تزال تلك المقولات صحيحة؟
تأتي الإجابة، من أستاذ العلوم السياسية، الدكتور عبدالخالق عبدالله، في كتابه المهم "لحظة الخليج في التاريخ العربي المعاصر: كيف أصبحت ست دول خليجية مركز الثقل العربي؟". 2018، الفارابي. يأتي الكتاب معاكساً لسيناريوهات تصدع النموذج الخليجي، معززاً الأمل في مستقبله، مؤكداً أن الخليج يعيش لحظته التاريخية الفريدة، ويقدم نموذجاً تنموياً تنويرياً رديفاً للمشروع النهضوي العربي الذي أخفق بعد تراجع الدور القيادي للدول العربية المركزية، وصار يبعث من الخليج، وأصبحت دول خليجية صغيرة، تتصرف كعملاق اقتصادي وسياسي ومعرفي تؤثر في الكل العربي، لها نفوذ يفوق نفوذ 16 دولة عربية، وثقل يوازي ثقلها جميعها. انتهى الزمن الذي كان فيه الخليج تابعاً منفعلاً بغيره، وصار فاعلاً ومؤثراً ومتحكماً بقدره ومصيره ومستقبله، كان الخليج ينظر إليه، في الماضي، ككيانات هشة ومشتتة وفِي طور التكوين، لا يسمع عنه، ولا يكترث لشأنه، ولا يهتم لدوره ومطالبه، لكن كل ذلك انتهى وبدون رجعة، مع بروز لحظة الخليج.كيف حصل هذا التحول؟ جاء هذا الصعود الخليجي، تتويجا لنصف قرن من التراكم التنموي، وأربعة عقود من العمل التعاوني المدعوم بازدهار اقتصادي، واستقرار سياسي، في ظل شرعية تاريخية لنظم وراثية، تمكنت من التكيف مع المستجدات، واستيعاب التحولات، وتجاوز التحديات والمخاطر بمرونة وثقة، وعبر توظيف خلاق لموارد لا محدودة، وقد ضاعف من ثقة القيادات الخليجية الشابة بقيادة المنطقة، انفتاحها على العالم، وإفادتها من فرص العولمة الاستثمارية والمعرفية والتقنية، وبناء علاقات استراتيجية وشراكات دولية مع القوى العظمى والاقتصادات الصاعدة. لم تعد الخليج ظاهرة نفطية، فبعد استثمارات ضخمة في التعليم والصحة ورفاهية الإنسان والبنية التحتية، أصبح الخليج قادراً على تجاوز الدولة الريعية، ويملك أكبر الاقتصادات العربية وأكثرها حيوية، وأكبر المحافظ السيادية، وصار جاذبا للمواهب والكفاءات والعقول، يستقطب الاستثمارات العالمية وأغنياء العالم، بالجودة النوعية للحياة، والتعليم والصحة والبنية التحتية والخدمات المتطورة. لقد تمكنت مدن خليجية من منافسة أكبر العواصم: الدوحة تمكنت من الفوز باستضافة المونديال العالمي 2022، ودبي نجحت في استقطاب مهرجانات تجارية وثقافية دولية: إكسبو 2020، وأبوظبي استضافت المقر الدائم لمنظمة الطاقة المتجددة (إيرينا)، واستضافة هذه الفعاليات الكبرى لم تتم بالمال وحده، بل إلى جانبه كانت الدبلوماسية الخليجية النشطة، والبيئة السياسية والاجتماعية المستقرة والجاذبة، والقيادات السياسية الطموحة، هذا النموذج الخليجي الناجح يجعلنا نعيد النظر في مفاهيم الدول الصغيرة والكبيرة ومصادر قوتها ونفوذها. الآن ما التحديات؟ يذكر الكتاب 5 تحديات، أبرزها: التحدي السكاني المتمثل بغلبة العنصر الوافد على المواطن، وهو وضع لا مثيل له عالمياً، والتحدي الديمقراطي: إذ لا توجد دولة خليجية مصنفة دولة حرة في تقرير الحريات (بيت الحرية 2017) عدا الكويت المصنفة شبه الحرة، ولا يمكن بمثل هذا السجل، أن تكون لحظة الخليج ملهمة. إن أكثر ما يحتاج له الخليج اليوم، جرعة كبيرة من الحرية والديمقراطية والمأسسة والمشاركة الشعبية.ما مستقبل النموذج الخليجي؟ هناك 3 سيناريوهات: الأكثر اخضراراً (معدل نمو مرتفع وتجاوز الخلافات)، الخضراء (المعدل الراهن والحد الأدنى من التعاون)، الأقل اخضراراً (ركود اقتصادي وتفاقم الخلافات).ختاماً: يرى المؤلف أن مستقبل الخليج يكون أفضل إذا ازداد التعاون الخليجي واقتنعت الحكومات بالإصلاح السياسي، وهذا حقيقة آمال الخليجيين، لكن مع تطاول الأزمة على اللحظة الخليجية، علينا التفكير: كيف نحافظ على توهجها! * كاتب قطري
مقالات
لحظة الخليج التاريخية... لنحافظ على توهجها
07-01-2019