سألتني يوماً الدكتورة ثريا العريّض: ما هو السر الذي جعل والدي يتحدث إليك تلفازياً، بعد أن كان مُحجماً عن الكلام فترة طويلة؟! بل إنه رفض التحدث للعديدين ممن قمتُ أنا بنفسي بالتوسط لهم عنده؟!أجبتها: التقيت والدك الأستاذ إبراهيم العريّض رغم ظروف أعراض الشيخوخة في مكتبه بوزارة الخارجية البحرينية، حيث كان يحرص حتى بعد أن تجاوز التسعين من عمره على الحضور في الصباح الباكر، بعد أن رتَّب لي لقاءً معه الصديق كريم شُكر، الذي كان مسؤولاً كبيراً في وزارة الخارجية.
• فسألته عن الشروط التي يرتئيها مناسبة ليخرج عن صمته؟! فأجابني: "أريد من الذي يتحدث معي أن يكون ملماً بتجربتي الأدبية، وعلى معرفة بمشوار حياتي، وعلى الأقل أن يكون لديه إلمام بتفاصيل حياتي".فقلت له: هل سينكسر حاجز الصمت عندما نذكر للمشاهدين ولادتك في الهند من أم كربلائية لقيت نحبها– رحمها الله– إثر ولادتك، ثم قامت بإرضاعك الهندية التي كانت تُعنى بتربيتك؟!• انفرجت أسارير الرجل، وأخذ ينظر إليَّ بإمعان، وبعد فترة صمت قال لي: إن مَن رسخت في ذهنه هذه المعلومة البسيطة عني لابد أن يكون جديراً بمحاورتي.***• من هنا بدأت رحلة انطلاقة التحاور مع الأستاذ إبراهيم العريّض، بعد أن تم الاتفاق على أن أحضر مع فريق العمل بأجهزتهم إلى مكتبه في السادسة صباحاً من كل يوم، وأحاوره بما لا يزيد على ساعة واحدة فقط. وظللت على هذه الحال لمدة أسبوعين، سجلت له خلالها أكثر من عشر ساعات، وقد كان العريّض، الذي تجاوز التسعين، يتحدث بذهنية وقَّادة، ويستذكر الأحداث بصفاء ذهني، فكانت شيخوخته وظروفه الصحية في وادٍ، وبريق لمعان ما كان يصدر عنه من كلمات في وادٍ آخر، لدرجة أنه كان يسرد لي أحداثاً، وكأنه يعيش اللحظة التي يتحدث عنها!ليس هذا فحسب، فقد كان يقوم بمهام رسمية في وزارة الخارجية، بل إنه في تلك الفترة كتب رثائية شعرية رائعة يرثي فيها الشاعر نزار قباني.***• كان الحوار ثرياً بالمعلومات عن حياته عندما جاء البحرين وهو في سن الرابعة عشرة، ولم يكن يعرف اللغة العربية، لكنه سرعان ما أتقنها وبزَّ أقرانه فيها، وصار يكتب شعراً عربياً، إلى جانب كتابته بالإنكليزية والأوردو والفارسية، وكيف أنه نشر قصائده في مجلة الرسالة بالثلاثينيات، وطبع ديوانه الأول في بغداد، وترجم رباعيات الخيام، وأعطى رأيه في الساحة الأدبية المعاصرة.• خرجت من العريّض بحصيلة من المعلومات الأدبية والثقافية والسياسية والاجتماعية هي في غاية الأهمية.• وجئت المحطة التي كنت أعمل فيها مزهواً فرحاً فخوراً بالتقاء أحد عمالقة الأدب، وكان الاتجاه أن أقوم بسلسلة من المقابلات مع الأدباء، ليدلوا بدلوهم عما قاله الأستاذ إبراهيم العريّض.***• لكن مسؤولاً كبيراً، وصاحب قرار في المحطة قال لي بسخرية: "من هذا الإبراهيم العريّض؟!"، فخرجت مصدوماً من المحطة، ولم أزل أحتفظ باللقاء حتى اليوم... فرحم الله أستاذ الأجيال الأديب والباحث والناقد والمترجم والشاعر إبراهيم العريّض.
أخر كلام
أديب عربي كبير من الخليج!
08-01-2019