ألمانيا ميركل... جيل بعد الوحدة
تدور السياسة الأوروبية اليوم، في إحدى مناورات التاريخ المعاصر القوية المحيرة، حول قصة جعل فيها قرار واحد من ابنة قس مطيعة حياة ابنة كاهن مطيعة بائسة. يشارك اثنان من أهم الأحزاب المحافظة في العالم في محاضرة تثقيفية غير متعمدة عن أحد أعمدة الحركة المحافظة الرئيسة: قانون العواقب غير المتعمدة، الذي ينص على أن عواقب القرارات غير المتعمدة في الأوضاع الاجتماعية المعقدة تأتي غالباً أكبر من المرغوب فيه ومعاكسة له.في عام 2015، قررت أنجيلا ميركل، أول مستشارة لجمهورية ألمانيا الفدرالية من ألمانيا الشرقية، استقبال مليون شخص، كثيرون منهم من السوريين، هربوا من مجازر الشرق الأوسط، لكن هذا التدفق الكبير من الناس أجج مخاوف الأوروبيين من تهديد الهجرة للحمة الاجتماعية، ومخاوف أدت إلى تصويت 52% مقابل 48% في استفتاء بريطانيا عام 2016 الذي دفع بالحكومة إلى إخراج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي. وفي عام 2019، تقود تيريزا ماي، التي لم تكن قد وصلت إلى رئاسة الحكومة البريطانية عندما عُقد الاستفتاء والتي صوتت للبقاء في الاتحاد الأوروبي، أو تحاول أن تقود حزباً مقسّماً يعجز عن الحكم لأنه ما من أكثرية تدعم أي خطة على شتى المستويات بغية تطبيق ما شكّل عام 2016 رغبة الناخبين في الخروج من الاتحاد الأوروبي، علماً أن رغبتهم هذه ربما تبدلت اليوم.
طوال سنوات كثيرة، اعتُبرت ميركل أقرب ما يكون إلى جواب السؤال الشهير المنسوب إلى هنري كيسنجر: إذا أردت التحدث إلى "أوروبا"، فبمن أتصل؟ كذلك جسّدت رغبة ألمانيا الأساسية بالاستقرار، رغبة شكّلت أحد الثوابت الوطنية المهمة منذ أن خدم كونراد أديناور كأول مستشارة لجمهورية ألمانيا الفدرالية بين عامَي 1949 و1963. في عام 2000 ترأست ميركل حزب أديناور، الاتحاد الديمقراطي المسيحي، الذي لم يحظَ، حتى تنازلها عن رئاسة الحزب الشهر الماضي، إلا بثلاثة قادة طوال 45 عاماً، وفي عام 2005 صارت مستشارة ألمانيا، وهو منصب ظلت فيه طوال 4800 يوم (بقي فرانكلين روزفلت رئيساً خلال 4422 يوماً)، في 13 يناير، وها هي اليوم تنهي ولايتها الرابعة والأخيرة. تستعد بريطانيا نوعاً ما للخروج من الاتحاد الأوروبي، وواجه محتجو "السترات الصفراء" في فرنسا أخيراً سياسات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بشراسة وعنف كافيين لتعديل طريقة الحكم باتجاه متوقع (خفض الضرائب وزيادة المخصصات). إذاً، صارت ألمانيا المستقرة اليوم بالنسبة إلى أوروبا أكثر أهمية مما كانت عليه عندما ذكر كيسنجر أن ألمانيا كبيرة جداً بالنسبة إلى أوروبا وصغيرة جداً بالنسبة إلى العالم.عارض زعيمان كبيران في أوروبا ما بعد عام 1945، شارل ديغول ومارغريت ثاتشر، الرغبة في قيام وحدة سياسية عميقة في أوروبا، لكن ألمانيا سرّعت نفور ما بعد 1945 من القومية، الذي فُسر على أنه يفرض ذوبان القوميات بإغراقها في خليط متعدد القوميات، وما زالت مخالفة هذا التفسير تُعتبر بالنسبة إلى ألمانيا اليوم تعدياً. ما من أمة أوروبية افتُتنت بقدر ألمانيا ببلاغة باراك أوباما المدروسة، وما من أمة نفرت بقدرها من فظاظة دونالد ترامب الكريهة، ويُعتبر هذا مهماً جداً في الوقت الراهن لأن الأحداث تبرز مدى اعتماد ألمانيا الضروري على الولايات المتحدة في أمنها: تعيش ألمانيا في منطقة مع جارتين (بولندا وهنغاريا) يحكمهما نظامان شعبويان غير ليبراليين، وعلى مقربة منها يعمل بوتين على زعزعة وتقطيع أطراف الأمة الأكبر جغرافياً في أوروبا، أوكرانيا. وساهم ماكرون عن غير قصد في التشديد على اعتماد ألمانيا هذا عندما ذكر في تصريح واهم أن من الضروري إنشاء "جيش أوروبي بحق" بغية "حماية أنفسنا من الصين، وروسيا، حتى الولايات المتحدة".تضم ألمانيا اثنين من أعظم أحزاب العالم، الاتحاد الديمقراطي المسيحي والحزب الديمقراطي الاجتماعي، الذي ابتكر في القرن التاسع عشر الديمقراطية الاجتماعية التي ساهمت في امتصاص زخم الثورة من اليسار، لكنهما كليهما يشهدان تبدلات، فيواجه الاتحاد الديمقراطي المسيحي تحدياً من اليمين بسبب حزب البديل من أجل ألمانيا والحزب الديمقراطي المسيحي، الذي عانى تراجعاً كبيراً كشريك أقل شأناً في ائتلاف ميركل. كذلك يخسر هذا الحزب أمام حزب الخضر الذي يحظى بدعم يضاهي ما يتمتع به الاتحاد الديمقراطي المسيحي والذي يُعتبر الحزب الأكثر شعبية بين نساء ألمانيا. أما التطرف، فيبقى محاصراً بفضل ثقافة مدنية تقدّر الاستقرار إلى حد كبير، حتى إن استطلاعاً للرأي أجري خلال هذا العقد كشف أن عدد الألمان الذين يخشون التضخم يفوق عدد مَن يخافون السرطان وغيره من الأمراض الخطيرة.ستحتفل ألمانيا السنة المقبلة بذكرى توحدها الثلاثين، وستشكل هذه فرصة ليقر العالم أن ألمانيا اليوم، كما قيل بحق، تمثل أفضل دولة ألمانية شهدها العالم منذ ولادة ألمانيا عام 1871. * جورج ويل *«ناشيونال ريفيو»