تعتبر تمضية مواطن بريطاني فترة من الوقت في الولايات المتحدة الآن نعمة وراحة، وتمر أيام عدة من دون حديث عن البريكست، ولكن لدى الولايات المتحدة انقساماتها الخاصة العميقة المتمثلة بالرئيس دونالد ترامب و«أميركا أولاً».

لقد أصبح ترامب ظاهرة، ومثل شمشون في المعبد، يبدو قادراً على تدمير هيكل السياسة برمته، ومزق آلة الحكومة الأميركية بسبب جدار مع المكسيك، ودمر تجارة العالم وتسبب في هبوط أسواق الأسهم وغدت التحالفات في حالة خراب، ومدهش أن يتمكن رجل واحد من إلحاق كل هذا الخراب بالعالم بمفرده بشكل فعلي.

Ad

وعلى أي حال، عندما تقول مؤسسة سياسية برمتها إن قراراً قد تم اتخاذه أنا أميل إلى الظن بوجود شيء صحيح فيه، وهذا ما حدث عندما أعلن الرئيس ترامب في الشهر الماضي عزمه على سحب القوات الأميركية التي تعد 2000 جندي من سورية. يومها قال «سوف تعود تلك القوات كلها الآن»، وكان مدهشاً أنه تمكن من القيام بهذه الخطوة بعد محادثة مع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان ومن دون إبلاغ قادة الجيش الأميركي.

وخسر ترامب على الفور وزير دفاعه جيمس ماتيس وخبيره في شؤون الدولة الإسلامية بريت ماكغورك الذي اتهم ترامب بأنه لم يعد قادراً «على حماية طريقتنا في الحياة»، وعلى صعيد خارجي تم تدمير الأكراد وشعر الأفغان باستياء شديد فيما تملك السرور إيران وتنظيم «داعش»، وصدر الغضب من الحزبين الجمهوري والديمقراطي على حد سواء، ودعا السيناتور الجمهوري البارز ليندسي غراهام إلى الرجوع عن قرار «يهدد سلامة الولايات المتحدة وأمنها»، وقد منح ترامب الآن مهلة 120 يوماً لتنفيذ الانسحاب من سورية.

ويجادل ترامب في أن الخروج من حروب أميركا يمثل تعهدا قطعه خلال حملته الانتخابية، ولم يكن القصد من التدخل الأميركي في سورية مطلقاً بأن يكون دائماً، كما أن ذلك أفضى الى القضاء على تنظيم «داعش»، وأضاف إن «على الناس أن يشرعوا بالقيام بالكثير من العمل الخاص بهم، لأن الولايات المتحدة لا تستطيع الاستمرار في دور شرطي العالم».

وفي هذا الصدد قال وزير الخارجية البريطاني جيرمي هانت إن الولايات المتحدة يجب أن تظل في سورية «من أجل التأكد من أن شوارع بريطانيا سوف تكون آمنة»، لكنه لم يشرح كيفية القيام بذلك، ثم إن سنوات من حياة الأميركيين لم تفعل سوى القليل أكثر من قتل الآلاف من المدنيين وتدمير بعض أقدم المدن على سطح الأرض.

يجب أن تكون الولايات المتحدة الدولة الأكثر أماناً في العالم لأن أرضها لم يسبق أن تهددت من قبل قوة خارجية ناهيك عن تعرضها لغزو، ثم إن المستنقع الذي تواجهه الولايات المتحدة في العراق وأفغانستان قد أصبح في حقيقة الأمر من دون نهاية، والتراجع يحطم قلوب الأصدقاء ويسعد الخصوم، وقد حاول الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما وفقد أعصابه، واكتشف ترامب السبب وراء ذلك: التشكيك من جانب جماعات الضغط المؤيدة للتدخل بحجة الأمن القومي.

وهنا يأتي التناقض، يجلس ترامب في غرفة الحرب في البيت الأبيض، وهو يدعو الى الشيء ذاته «الأمن القومي»، كما أنه يسخر من سورية من أجل تبرير بناء الجدار مع المكسيك بقيمة 5 مليارات دولار، وتنطوي الهجرة على معاناة فظيعة كما كانت الحال مع شكسبير في «البحر الفضي»، حيث كان عدد قليل فقط من زوارق الدورية كافياً، ولكن القضية هي ذاتها، كيف تحترم وعود الحملة الانتخابية لإبعاد المهاجرين.

يملك ترامب حق وضع «أميركا أولاً» في الشرق الأوسط، وقد يفسر هذا الشعار حواجزه ضد كندا والصين، ولكن كما هي الحال بالنسبة الى بناء الجدار مع المكسيك فإن تلك السياسات لا علاقة لها بالأمن القومي الأميركي، ويحمي محيطان في شرق أميركا وغربها، وباستثناء هجمات 11 سبتمبر كانت الحوادث الإرهابية محلية فقط، كما أن الحروب الخارجية من فيتنام إلى سورية عكست بعض الهيمنة الإمبريالية الجديدة التي سيطرت على بريطانيا، وتمثل التأثير في تحويل الولايات المتحدة من دور الشرطي إلى حارس عشوائي.

وكانت سياسات الخوف طريقة الخلل لرجل السياسة غير الآمن، ولا يزال استعراض القوة العسكرية يتخلل عالم الولايات المتحدة، وقد أصبح نافذة عرض لما وصفه الرئيس أيزنهاور «المركب العسكري– الصناعي المعادي للديمقراطية»، وتحسين الإنفاق العسكري ودعم قضية وجود أميركا في شتى أنحاء العالم في سياق الأمن القومي.

وقد أبرزت المساعدة الأميركية الى حلف الناتو منذ زمن طويل أمن أوروبا، ولكن ذلك لم يقوض تحديات ترامب بأن بقية دول العالم يجب أن تبدأ بإيجاد حلول لمشاكلها. وتورط الولايات المتحدة الحالي في الشرق الأوسط كان على وجه الدقة ما حذرت بريطانيا منه في حرب السويس في سنة 1956 من أنه يجب ألا يخفي مغامرة إمبريالية ضمن عباءة الأمن المحلي، وتثير ملاحظات ماتيس وغراهام وهانت السخرية في هذا الصدد وهم يعلمون ذلك.

وتعتبر قوة الجيوش لإملاء السياسة والسيطرة على الموارد عبر المبالغة في الخوف العام الجانب السلبي للشعبوية، وأنا كمعجب دائم بالولايات المتحدة كنت أشعر دائماً بإعجاب إزاء ما يمكن أن تحققه قوتها وثروتها من خير للعالم. ولهذا السبب كانت دعوة فرانكلين روزفلت الرامية إلى طرح شبح «الخوف نفسه» مأساوية الى حد كبير، وأن السعي الى «الاستقرار» في الشرق الأوسط وتقديمه في صورة بعيدة ضمن سلامة الولايات المتحدة أو بريطانيا هو مجرد هراء.

● سايمون جنكنز– الغارديان