(خبر سيئ: احتياطات الغاز المكتشفة قرب سواحل زيمبابوي ليست 6 تريليونات متر مكعب كما كان مقدراً من قبل لكنها 8 تريليونات تقريباً)، هكذا رأت مجلة «فورين بوليسي» الإعلان عن امتلاك الدولة الإفريقية للمزيد من الثروات الطبيعية.

وما دفع الدورية الشهيرة للنظر إلى الأمر على أنه «تطور سلبي» أو «مقلق» هو حقيقة فشل الدولة الإفريقية في استغلال ما لديها من وفرة موارد سابقاً بل وسوء استغلالها بما لم يعد بالفائدة على البلاد، بل أصبحت تعاني مما يعرف في علم الاقتصاد بـ«لعنة الوفرة» (لعنة الموارد) أو «المرض الهولندي».

Ad

«المرض الهولندي»

ظهر مفهوم المرض الهولندي عام 1977 بعد اكتشاف أمستردام لاحتياطات ضخمة للغاية من الغاز الطبيعي عام 1959، بما تبعه من زيادة كبيرة جداً في الصادرات، لكن كان هناك تناقض كبير جداً بين التدفق الكبير للإيرادات الخارجية والاقتصاد «العليل» داخلياً بسبب عدم استثمار عوائد الغاز جيداً.

وبدأت الأعراض تظهر بدءاً من عام 1970 بارتفاع نسبة البطالة من 1.1 في المئة إلى 5.1 في المئة وبتراجع معدل النمو الاقتصادي بحدة، بل وبفشل النفقات الحكومية في محاولات إنعاش القطاعات الأخرى للاقتصاد التي عانت كثيراً، ربما بسبب انتعاش قطاع الغاز بالأساس.

فبسبب العرض الكبير من العملات الأجنبية – وتحديداً الدولار الذي يتم بيع الغاز به، أصبح سعر «الجلدر» (عملة هولندا حينها قبل اعتماد اليورو) مرتفعاً في مواجهة العملات الأخرى، بالتالي أصبحت قطاعات الاقتصاد الهولندي أقل تنافسية وازداد اعتماد هذا الاقتصاد على الصادرات وتفاقمت أزمة البطالة، وتراجعت كل القطاعات المنتجة في الاقتصاد مقابل ازدهار الغاز.

وما زاد الطين بلة أن الحكومة الهولندية اضطرت للإبقاء على أسعار فائدة منخفضة لعملتها كي لا تشهد زيادات أخرى (تصبح مطلوبة بدرجة أكبر إذا ارتفعت أسعار الفائدة فترتفع قيمتها) فدرجت الاستثمارات على الهرب من هولندا ولم تبق أموال الفوائض من إنتاج الغاز داخل البلاد طويلاً.

أمثلة معاصرة

وفي وقتنا المعاصر، يمكن ضرب مثال واضح بنيجيريا التي تعاني انفلاتاً أمنياً ومشاكل داخلية، في حين تعد عاشر منتجي العالم من النفط وأحد أهم منتجي المعادن والغاز الطبيعي، وعلى الرغم مما حباها الله به من موارد فإن معدل النمو لم يزد على 0.8 في المئة لعام 2017، وتراوح حول تلك النسبة عموماً في السنوات الأخيرة.

فالعمالة الماهرة في نيجيريا تعمل كلياً في الصناعات البترولية، التي يرتفع أجر العامل فيها على نظيره خارجها (في العمل اليدوي نفسه) قرابة 14 ضعفاً، بما يجعل موظفي الصناعات البترولية وحدهم هم الطبقة الغنية في مواجهة بقية العاملين في القطاعات الأخرى، الذين يعانون فقراً مدقعاً.

كما تعتبر فنزويلا حالة أكثر تطرفاً من نيجيريا أيضاً إذ تراجعت معدلات النمو فيها حتى وصلت نسباً سلبية قياسية (آخر عام متاح عنه إحصاءات بدقة هو 2014 وبلغت نسبة النمو فيه

-3.9 في المئة)، وذلك على الرغم من قطاع البترول المنتج فيها.

وعلى الرغم من الإيرادات الدولارية التي تجنيها فنزويلا بفعل صادراتها النفطية فإن هذا لم يمنع عملتها من التدهور المستمر أمام العملة الأميركية حتى وصلت عام 2016 إلى 0.001 دولار ثم عادت لترتفع بعد تراجع نسبي بسبب الاضطرابات السياسية التي ساهمت في هبوط العملة بدرجة أكبر مما كانت.

ويكفي مقارنة فنزويلا بالجارة بيرو، التي حققت معدلات نمو 2.5 في المئة خلال الأعوام الأخيرة رغم خلوها تقريباً من المواد الخام، إلا من بعض المناجم التي يجري استغلالها بشكل مكثف لتعويض الفقر الطبيعي للبلاد.

صراعات داخلية

في الحالتين النيجيرية والفنزويلية تشهد البلاد اضطرابات عنيفة بسبب ازدياد أعداد الفقراء بشكل مطرد وسط انعدام تام للتوازن بين قطاعات الاقتصاد المختلفة، مع استفادة القطاعات المنتجة بصورة شبه حصرية من الدخل الاستثنائي لتلك القطاعات.

وتأتي حالة أنغولا أيضاً لتثير المزيد من التأكيد على «لعنة الموارد» فبين عامي 2005-2010 حققت أكبر طفرة في تاريخ الاقتصادات الحديثة بمعدل نمو ناتج محلي بلغ 17 في المئة في المتوسط سنوياً، غير أنها لم تتجاوز 0.49 على مؤشر التنمية البشرية (الدرجة من واحد صحيح) وبقيت معدلات وفيات الأطفال فيها الأعلى بين جيرانها.

وتأتي جزيرة «ناورو» الصغيرة، التي أدى الاعتماد المفرط فيها على إنتاج الفوسفات الطبيعي إلى حفر «أخاديد» كبيرة جعلت أكثر من 50 في المئة من مساحة الجزيرة غير صالحة للسكان أو للاستغلال في الأنشطة الصناعية أو الزراعية أو غيرها، بما يجعل التعدين هناك بمثابة «فادح الثمن» على المدى الطويل.

وتشير دراسة لجامعة ميشيغان الأميركية إلى أن دولاً مثل نيجيريا وأنغولا وبورما وغينيا الجديدة وتشاد وباكستان عانت «لعنة الوفرة» بسبب التدخلات الأجنبية فيها، التي أشعلت حروباً أهلية جميعاً فترات طويلة فضلاً عن أطماع بعض «أمراء الحرب» في الموارد الطبيعية.

وتبرز حالة «الألماس الدموي» الذي استخدم عقوداً طويلة أيضاً في تمويل الحروب الأهلية في «سيراليون» وكان سبباً لها أيضاً، وبين قبائل التوتسي والهوتو في رواندا والكونغو في إطار حقيقة تحول الموارد الثمينة في كثير من الأحيان من نعمة إلى نقمة.

لكل قاعدة استثناءات

ويرفض بعض الاقتصاديين اعتبار «لعنة الموارد» بمنزلة لعنة حقيقية لأكثر من سبب لعل أهمها مبدأ التخصص في الاقتصاد وتركيز كل دولة على ميزتها التنافسية. ولا شك أن هذا يبدو صحيحاً نظرياً غير أنه عملياً يؤذي الدول التي يبقى اقتصادها رهينة الأسواق العالمية وتقلبها في سلعة أو سلعتين.

ولعل المثال على ذلك هو تراجع الناتج المحلي الأرجنتيني بأكثر من 3 في المئة عام 2017 بسبب الجفاف الذي ضرب البلاد، بما أدى لتلف نسب كبيرة من محصول فول الصويا الذي يعد في صدارة صادرات الدولة اللاتينية، ومن عوامل تميزها الطبيعي أو يشكل «ميزة تنافسية» ونسبية لها.

كما يضرب الاقتصاديون المثل بالعديد من الدول التي نجحت في الإفلات من «فخ» «لعنة الوفرة»، ومن بينها جمهورية تشيلي، فالجمهورية اللاتينية لديها قرابة 20 في المئة من احتياطات النحاس القابلة للاستغلال التجاري حول العالم، وتنتج قرابة 11 في المئة منه، وعلى الرغم من ذلك لم يتحول النحاس للعنة في الدولة اللاتينية.

فالأخيرة أقرت برامج لعمل تنمية متوازنة من خلال برامج حكومية تشجع الصناعات المحلية وتجعل الرواتب فيها قريبة لقطاع التعدين، بما أبقى على معدلات نمو متوازنة في مختلف القطاعات.

وتأتي النرويج أيضاً في صدارة الدول التي أفلتت من «المرض الهولندي» فعلى الرغم من الاحتياطات البترولية التي تم اكتشافهما منذ ستينيات القرن الماضي فإنها نجحت في تلافي الآثار السلبية من خلال سياسات متعددة اتخذتها، حتى تنوع مصادر الدخل من الموارد الطبيعية لتشمل الأسماك والأخشاب والورق.

«لا مركزية الإيرادات والنفقات»

تشمل تلك السياسات اتباعاً صارماً لمبدأ لامركزية الإيرادات والنفقات، بمعنى دخول الإيرادات كلياً ضمن موازنة الدولة ثم الإنفاق على كل القطاعات كل حسب احتياجه وليس حسب ما يقدم للدولة، فضلاً عن تخصيص نسبة 4 في المئة سنوياً من إيرادات النفط لتحسين مستوى الخدمات العامة.

وتعد بوتسوانا أيضاً ضمن أبرز الدول التي نجحت في الفكاك من لعنة الوفرة، فالدولة التي كانت المعادن وتحديداً الماس تشكل أكثر من 80 في المئة من صادراتها وقرابة نصف إنتاجها المحلي استغلت الفائض من إنتاج المعادن النفيسة من أجل إعادة هيكلة الاقتصاد وتنويعه.

ويقول بنك التنمية الإفريقي، إن الدولة الصغيرة نجحت في تنويع إيراداتها إلى حد بعيد بعد تراجع المعادن الثمينة من الصادرات إلى 50 في المئة خلال العقدين الأخيرين، و30 في المئة من الناتج المحلي بما يعكس تقليلاً للاعتمادية على السوق المحلية المعتمدة على العرض والطلب.

وعلى الرغم من أن هذه تمثل نسباً عالية بطبيعة الحال فإن استمرار انخفاضها خلال الأعوام الأخيرة يعطي علامات صحية لاقتصاد الدولة الإفريقية المحاطة بدول تعاني من «لعنة الموارد» أو الوفرة، إلى دولة تستغل مواردها بشكل صحي لدفع عجلة التنمية، لتبقى الموارد «نعمة» في الأصل يحولها سوء الاستخدام لنقمة.