مقابر مشتعلة... أرصفة دافئة
"مقابر مشتعلة" هي الجزء الثاني من ثلاثية الكاتب المغربي أحمد الكبيري، و"أرصفة دافئة" هي الجزء الثالث والأخير من ثلاثيته، وقد كتبت عن الجزء الأول "مصابيح مطفأة"، وأحببت أن أكتب عن الجزء الثاني والثالث بهذا المقال، حتى تكتمل صورة الثلاثية لدى القارئ.في هذين الجزأين مازال أحمد الكبيري يواصل سرده عن مدينة وزان وأُناسها وحكاياتهم، كما جاء بروايته الأولى "مصابيح مطفأة"، وهنا في "مقابر مشتعلة" مازال يتابع ملاحقة حياة بطله السي محجوب، العائد بعد سنوات طويلة من فرنسا إلى بلدته وزان، بعد أن طلق زوجته الفرنسية التي تزوجها عن حب، وأنجب منها ابنه، ثم انفصلا بعد اكتشافها خيانته لها.يعود حاملا يأسه وقنوطه وتمزق روحه بسبب عدم غفرانها ومسامحتها له، يعود ليعيش بدون هدف واضح، ولا رغبة في العمل، خاصة بعد وفاة أمه، واستيلاء أخيه عبدالعزيز على منزل الأسرة وبيعه، وحرمان السي محجوب من حقه بالميراث، حيث قال: إن عقد بيع البيت تم بينه وبين والدتهما مقابل ما كان يمنحها من نقود في أول كل شهر، وأنكر المبلغ الذي أقرضه له عندما عاد من فرنسا، مما يزيد من إحساسه بالظلم والتشرد: "هكذا أسلمتني للأرصفة والحيطان الباردة - صرت مجرد رجل بائس - نتنا وعيوني حمراء ملتهبة كالجمر - مخمورا على الدوام - أسمالي عطنة تقرف مني الكلاب، أنا لست متسولا، ولا أطلب صدقة من أحد - فقط أنزل كل مساء إلى الشارع، وأجلس بزاوية يمر منها الناس، وأخرج من تحت أسمالي أشيائي وقنيناتي البلاستيكية والزجاجية المملوءة بالماء والكحول والخمر إن وجد وما أقتات به - ثم أخوض بطقوسي وعوالمي، التي لا أحب أن يتقاسم معي مرارتها أي كان-"، ينتهي الجزء الثاني حينما أفرغ على رأسه قنينة من الماء حتى يخفف ألمه، وأفرغ الثانية على رأس صديقه حتى يفيق، سقطت وقيده عقب سيجارته على أسمال صديقه المشرد مثله "عزيوز"، فاندلع الحريق فيه، خف الألم برأسه عندما طار السكر فهرب خائفا وترك خلفه مقابر مشتعلة.
الجزء الأخير "أرصفة دافئة" يكتشف أن عزيوز لم يحترق، وكذلك أخوه عبدالعزيز بعد مرضه يندم من فعلته، فيتسامح من المحجوب، ويرد إليه إرثه، ليعود للسكن مع أخيه وأخته ويمارس التدريس من جديد. في الجزء الأخير يبين فيه علاقته بسلمى التي كان يحبها من أيام دراستهما الجامعية، لكنها لم تكن تعيره أي اهتمام، حتى تتزوج ثم تطلق، ثم تقوم بينهما علاقة حب قوية، لتتخلى عنه في النهاية، لأنه كان بالنسبة لها كامرأة جميلة وثرية ليس أكثر من نزوة عابرة بحياتها.الروايات الثلاث كحياة للمحجوب ليس فيها الكثير الذي يخصه، فالبداية كانت مع إيزابيل التي تخلت عنه بسبب خيانته لها، والثانية سلمى التي كان بالنسبة لها ليس إلا نزوة لامرأة تتسلى.إذن أي تقبع أهمية هذه الثلاثية؟الأهمية تأتي من هذا المغرب الأسطوري الساحر بعبق امتداد تاريخه الحضاري العميق، فهو بكنوزه وقصص أُناسه بشيوخه ودجالينه وسحرته وأوليائه وبؤس فقرائه، والجهل السائد بينهم وبين واقعهم، والبعد الشاسع بين حياة الفقراء الغارقين باليأس والحشيش والملتحفين بفقرهم، والأغنياء بمدينة ترفق وتحتفي بهم، ولا عزاء للمساواة والتكافؤ في مدن تزدحم بازدياد سكاني وجهل عظيم وأمية. "نحن في المغرب لم نتعود بعد على القراءة - لدينا الوقت لفعل كل شيء إلا القراءة، وإذا أردت أن ترى الواحد منا لا يكف عن التثاؤب والتذمر، ناوله كتابا ليقرأه - لكن بصراحة، ما حاجتنا نحن للقراءة".أحمد الكبيري دخل من ثقوب هذا النسيج الاجتماعي غير المتكافئ، وأخذ يغزل خيوطه، يخرج من محور القصة الرئيسي ليشبك مع محاور أخرى مرت بحياته أو خطرت على باله، أو وجدت ما يربطها مع المحور الأساسي، تشبيك وتحبيك قصص مختلفة بنسيج الحكاية ببراعة، شكل إضافة بانورامية للحياة البسيطة للمحجوب الذي يرويها كحوار مع صديق أو كتذكر، أو استعادة ذكريات تتنطط وتتقافز بين تاريخ من الحكايات التي مرت على الذاكرة والعين.أحمد الكبيري حكاء كبير، ينهل حكاياته من حياة مترعة بقصص حيوات مغاربية تراثية غنية لا تنتهي، وهذا ما ذكرني بعوالم محمد شكري وخبزه الحافي، وأيضا بعوالم الكاتب المصري خيري شلبي، والكاتب السوداني أمير تاج السر.