فلنجتمع لنفترق أكثر!*
حرك ربطة عنقه محاولاً التخفيف من ضغطها على رقبته، خرج من غرفة الاجتماعات وعاد مجدداً، أخذ رشفة من كوب الماء وأخرى من القهوة، لم يكن يعرف ما الذي يحدث وكأن الأكسجين قد بدأ بالتناقص التدريجي من تلك الغرفة، وانتشر إحساس بالاختناق. إنه اجتماعه الأخير ليوم عمل طويل تخللته سلسلة من الاجتماعات، فرح فرح طفل عندما أعلنوا نهاية الاجتماع ملتزمين بموعد محدد لمتابعة ما دار فيه في الأسبوع القادم، لم يكترث للعبارة الأخيرة ولم يجعلها تقلل من فرحته وهو يغادر تلك الغرفة التي تحولت إلى شكل من أشكال غرف التعذيب في السجون العربية الكثيرة والممتدة من المحيط إلى الخليج!مشى في الممر الطويل حتى مكتبه، بل كان كمن يجري في لهفة لموعد غرام، حلق بعيدا وهو يحدّث نفسه بما سيفعله بعد يوم "التعذيب" يقصد العمل الطويل، فقد تحولت مباني العمل إلى شكل من أشكال العبودية بتنوعاتها عندما تساقطت قيمة الفرد فيها، وراح يقال له سنستبدلك بالأرخص، وربما ليس من نستطيع أن نوفر عن طريقه فقط، بل الآخر الذي سيقبل بأي معاملة حتى لا يعود إلى طوابير العاطلين الطويلة، تلك الأخرى أصبحت أكبر من الحسابات البنكية والأصفار لدى كبار المستثمرين والتجار والقلة التي تملك في مقابل الأغلبية التي تجري على لقمة عيشها بتنوع اللقمة، فقد لا تكون كلها مجرد رغيف خبز أو عيش، بل ربما بالمحافظة على المستوى الاجتماعي الذي أصبح هو مفتاح الحل والربط في مجتمعات أعمتها المظاهر والاستهلاك المقيت.هو لا يكترث لكل ذلك، بل انشغل بالتفكير في كثرة الاجتماعات التي هو مضطر أن يكون فيها، حتى أنهم يعقدون اجتماعاً للتحضير لاجتماع آخر، كثرة الاجتماعات وقلة الجمعة يردد... كلما جلسنا أكثر للحديث اختلفنا وابتعدنا أكثر، أصبح الإنجاز في يوم العمل الطويل هو عدد الاجتماعات التي تم عقدها وعدد المشاركين فيها حتى لو كانوا بأجسادهم، في حين عقولهم ومشاعرهم في مكان آخر معظم الأوقات، يبقى ذاك الذي عينه على المناصب دوما كعين الصقر يسلط على فريسته، وهنا هو المدير الذي ما إن يجلس على الكرسي الوثير حتى تتقمصه شخصية أخرى وتلتصق به، ويصبح مبهوراً بقدرته على الأمر والنهي. ثقافة تعمقت ليس في مجتمعاتنا فقط، بل في كل المجتمعات رغم أن بعضها يحاول التخلص منها والابتعاد عن ذاك الإحساس بالاستقرار التام.
راح هو يسجل ملاحظاته في كل اجتماع وعلى طرف الصفحة عدد الاجتماعات في ذلك اليوم أو الأسبوع... قسّم الصفحة إلى مربعات، يضع كل زميل أو زميلة له فيها، ويصف كيفية مشاركتها "الفعالة" في الاجتماعات عبر الشخبطة على الأوراق أو محاولة وضع جهاز الكمبيوتر أمامها متظاهرة بأنها تدون محضر الاجتماع أو النقاط المهمة فيه، وهي ملتهية بلعبة هنا أو قراءة التعليقات على صفحات الفنانين ومتابعة القضايا والخلافات التي ترفعها تلك الفنانة الخليجية المتواضعة الصوت التي صدّقت أنها أم كلثوم الخليج، فراحت تتحكم في العباد وتكيل الشتائم للجميع. ككل الظواهر التي طفت على سطح مياه الخليج خلال العشرين سنة الأخيرة لا تشبه ناس هذه البلدان البسطاء، ولا تمثل إلا شكلاً من أشكال التشويه الذي يصل حد الشك في أنه متعمد مع سبق الإصرار لتحويل البشر في هذه الدول الى مجرد أرقام لا ناقة لها ولا جمل فيما القائمون على الأمور ينهبون ماء البحر والأكسجين بالهواء!!فكر أن يكتب مقالا عما فعلته الاجتماعات من إفساد بيئة العمل، بل ربما تعطيلها، فكثرتها تعني قلة العمل والإنجاز والاكتفاء بتحويل عقد الاجتماع إلى إنجاز يضاف إلى قائمة الإنجازات التي تحسب لذاك المدير أو حتى الوزير!! والاجتماعات هي مرض جديد ابتلت به ليس الحكومات فقط، بل المنظمات الدولية ومنظمات المجتمع المدني. راح هو يرسم صورا بدت وكأنها لقطات من أفلام الخيال العلمي، سرح في خياله، ولأن الاجتماعات تخنقه فكر أن يحضر أنبوبة أكسجين معه لكل اجتماع ونصح زملاءه وزميلاته بذلك، ومع الوقت وكلما أبحر هو في تهيئته المرتبطة بالاجتماعات زاد التناقز عليه بأنه قد أصيب بالهوس أم أنه هوس الاجتماعات. ارحمونا يرحمكم الله ولعل أحدهم ينشر نظرية جديدة حول أماكن العلم الخالية من الاجتماعات كتلك الخالية من التدخين!!* ينشر بالتزامن مع "الشروق" المصرية