في ظل استعداد الولايات المتحدة لسحب قواتها البالغ عددها 2000 جندي من سورية، ما زالت أمامها مهمة أساسية أخيرة لإنجازها، فقد قاتلت هذه بنجاح إلى جانب 60.000 عنصر من «قوات سورية الديمقراطية» بقيادة كردية، إرهابيي تنظيم «الدولة الإسلامية» على مدى السنوات الأربع الماضية.

وأشار البيان الأخير للرئيس ترامب إلى رغبته في حماية هؤلاء الأكراد، لذلك، وعلى الرغم من جميع العقبات، على الولايات المتحدة محاولة حماية هذه الميليشيا الشجاعة والوفية على المدى القصير، وضمان مستقبل أكثر أماناً للأكراد السوريين وشركائهم المحليين على المدى المتوسط.

Ad

إنجاز هذه المهمة ليس سهلاً

هناك خمس خطوات لدعم «قوات سورية الديمقراطية»:

أولاً: خلال الأشهر الأربعة المقبلة تقريباً، على الولايات المتحدة مواصلة تنسيقها مع «قوات سورية الديمقراطية» بأكبر قدر ممكن من الفعالية، إذ تساعد هذه الخطوة في إبعاد المتطرفين الجهاديين ومنع قوات معادية أخرى- على غرار نظام الأسد القائم على الإبادة الجماعية، والمتواطئين معه من إيران و»حزب الله»- من مهاجمة سكان شرق سورية.

يمكن تفهّم خيبة أمل «قوات سورية الديمقراطية» من احتمال انسحاب أميركي برّي من سورية، فمن دون تغطية جوية أميركية مضمونة على الأقل، بالإضافة إلى استمرار تسليم الأسلحة والدعم الاستخباراتي واللوجستي، لن تتمكن «قوات سورية الديمقراطية» من الصمود في وجه التهديدات التي تلوح في الأفق سواء من الجيش التركي أو من قوات نظام الأسد وشركائه من الروس والإيرانيين و«حزب الله»، ومع ذلك، ففي الوقت الراهن، لا تزال «قوات سورية الديمقراطية» تتطلع إلى التعاون مع الولايات المتحدة وغيرها من الحلفاء على أرض المعركة (بما في ذلك الوحدات العسكرية البريطانية والفرنسية المتبقية).

وفي الوقت نفسه ترغب السلطات المحلية لـ«قوات سورية الديمقراطية»، كُرْهاً، في البحث عن بعض الوفاق مع نظام الأسد باعتباره الملاذ الأخير، حيث حافظ النظام على وجود رمزي ومقبول في أكبر مدينتين شمال شرق سورية هما القامشلي والحسكة، الواقعتان تحت سيطرة «حزب الاتحاد الديمقراطي» الكردستاني، طوال السنوات الثماني الماضية من الحرب الأهلية. ولم يُظهر الأسد حتى الآن أيّة نية جادة بقبول حلٍ سياسي توفيقي مع الأكراد.

كما لا تُظهر قوات الأسد أو حلفاؤها الأجانب رغبة كبيرة في محاربة «قوات سورية الديمقراطية» بشكل مباشر أو مواجهة القوات التركية المعارضة، أما الأزمة الجديدة بين كل هذه الفرق بشأن مدينة منبج التي تشكل مفترق طرق استراتيجي فتثبت إلى حدّ كبير وجهة النظر هذه، وعليه، إذا أدارت الولايات المتحدة هذه المرحلة الانتقالية جيداً وبشكل معقول، فبإمكانها الحفاظ بشكل أفضل على انتصارها ضد تنظيم «الدولة الإسلامية»، وحماية أفضل أصدقائها من تلك الحملة.

ثانياً، على الولايات المتحدة مواصلة العمل الجاد للتوسط في تفاهمات جديدة بين الحكومة التركية و»قوات سورية الديمقراطية» بشأن مستقبل شمال وشرق سورية على المدى المتوسط، فتركيا تدّعي وجود تهديد أمني محتمل من «وحدات حماية الشعب»، الميليشيا الرئيسة التي يقودها الأكراد، وحزبها السياسي الأم «حزب الاتحاد الديمقراطي»، أحد فروع «حزب العمال الكردستاني»، المصنّف رسمياً من كل من الولايات المتحدة وتركيا منظمة إرهابية، وكما أشار وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو، إنه صراع مع تاريخ طويل ومعذّب، ولكنه أيضاً صراع شهد الكثير من عمليات وقف إطلاق النار الفعالة، والمفاوضات الخاصة، والتفاهمات ذات المنفعة المتبادلة.

ومن اللافت للنظر أنه منذ فترة ليست ببعيدة تعود إلى منتصف عام 2015، كان رئيس «حزب الاتحاد الديمقراطي» في ذلك الحين صالح مسلم ضيفاً رسمياً مكرماً لإجراء محادثات سياسية في تركيا. وفي ذلك الوقت، تعاونت تركيا حتى في تنفيذ عملية عسكرية في محيط مدينة كوباني في شمال سورية، وكذلك لضمان أمن الحدود بشكل عام، مع كل من «وحدات حماية الشعب» وقوات «البشمركة» الكردية من «إقليم كردستان» الذي يتمتع بالحكم الذاتي عبر الحدود في العراق. واليوم، هناك سبب وجيه للاعتقاد بأن تركيا ستفضل مجدداً التوصل إلى تفاهمات مماثلة مع أكراد سورية، ربما بشأن تقاسم فعلي للسيطرة على الأراضي بدلاً من تنفيذ حرب شاملة ضد عدو أساسي يشن حرب عصابات.

علاوةً على ذلك، إنّ الجدول الزمني المحدد لأربعة أشهر لسحب القوات البرية الأميركية يصادف بعد إجراء الانتخابات التركية المقبلة في نهاية مارس، ويوفر ذلك بعض الضمانات بشأن إرجاء أي غزوات تركية جديدة، طالما بقيت القوات الأميركية متداخلة مع «قوات سورية الديمقراطية»، كما يوفر بعض الاحتمالات لاتخاذ تركيا موقفاً أكثر اعتدالاً تجاه الأكراد، بمجرد انتهاء الانتخابات واكتساب الرئيس رجب طيب أردوغان مزيداً من الهامش السياسي المحلي للمناورة.

وفي هذا الصدد، كشف متحدث باسم «وحدات حماية الشعب» أنّ روسيا تعتزم التوسّط في تفاهمات ليس بين أكراد سورية ونظام الأسد فحسب، بل بين هؤلاء الأكراد وتركيا أيضاً، لذا لدى جميع الأطراف، بما فيها روسيا والولايات المتحدة على السواء، مصلحة قوية وعاجلة في إيجاد بعض التسويات السلمية هنا، حتى لو كانت جزئية أو مشروطة، وقد تبرز حاجة إلى ترتيبات مختلفة لأجزاء مختلفة من هذه المنطقة الشاسعة التي تضم: القطاع الشمالي على طول الحدود السورية-التركية؛ والمناطق الجنوبية الأقرب إلى الحدود الأردنية والعراقية؛ والمدن الكبرى ذات الأغلبية الكردية الواقعة بينهما.

ثالثاً، على الولايات المتحدة أن تحافظ، وإن من مسافة بعيدة فحسب، على شرايين الحياة الاقتصادية التي تعتمد عليها المناطق السورية الحليفة لـ»قوات سورية الديمقراطية» للحد من روابطها بالنظام في دمشق، وتشمل تلك زيادة التبادلات مع «إقليم كردستان» الذي يتمتع بالحكم الذاتي عبر الحدود في العراق، وتقديم المساعدات واستقطاب الاستثمارات من بعض الحكومات العربية الصديقة، وربما حتى المشاركة ببعض الأعمال التجارية مع تركيا.

وإلى المدى الذي قد ترغب فيه كل هذه الأطراف الخارجية في ممارسة بعض النفوذ داخل سورية بما يتخطى سلطة نظام الأسد، سيكون من مصلحتها بناء علاقات عمل مع السلطات المحلية هناك، ومن المؤكد تقريباً أن المنطقة الخاضعة لسيطرة «قوات سورية الديمقراطية» تحتاج للحفاظ على بعض الروابط الاقتصادية مع سائر المناطق السورية أيضاً، التي تعتمد عليها للحصول على بعض الكهرباء، ودفع بعض رواتب القطاعين المصرفي والحكومي، فضلاً عن القيام ببعض الأعمال التجارية بمجالي المنتجات الزراعية والنفط. ومع ذلك، ليس من الضروري أن تصبح خاضعة بالكامل للحكومة التي ترفضها في دمشق، إلى درجة فقدان ملايين السوريين من كل الأعراق والديانات كل أملّ في إقامة حكومة ذاتية محلية على الأقل.

رابعاً، على الولايات المتحدة وكل حلفائها الآخرين، بمن فيهم تركيا، تشجيع «قوات سورية الديمقراطية» وإداراتها المحلية القائمة على توسيع دائرة شراكاتها مع الدول الأخرى المجاورة لسورية، ولا تشمل تلك القبائل العربية، المسيحيين السريان، والتركمان، والأقليات الأخرى فقط، بل أيضاً الأكراد غير التابعين- أو حتى المعارضين- لميليشيا «وحدات حماية الشعب» الحاكمة و»حزب الاتحاد الديمقراطي».

صحيح أن هؤلاء كانوا يتصرفون في بعض الأحيان سابقاً كحكام مطلقين مستبدين بدلاً من قادة ديمقراطيين حقيقيين، في الأراضي التي يسيطرون عليها حالياً، لكن التقارير المستقلة تظهر في الآونة الأخيرة، تحسن العلاقات بين الجماعات المختلفة هذه، حتى في المدن والقرى ذات الأغلبية العربية أو المختلطة في أرجاء سورية شرق نهر الفرات.

خامساً، وأخيراً، على الولايات المتحدة إبلاغ روسيا وتركيا والأمم المتحدة وكل الأطراف الخارجية المعنية الأخرى عزمها اتباع المبادئ التوجيهية للسياسة المشار إليها أعلاه، على الرغم من سحب القوات الأميركية من سورية. لقد تضرّرت المصداقية الأميركية باعتراف الجميع من جراء هذا التغيّر الأخير في المواقف، ولكن ذلك سبب إضافي لاسترجاعها بأفضل طريقة ممكنة. إن البدائل قاتمة للغاية وهي: عودة إرهاب تنظيم «الدولة الإسلامية»، أو حرب دموية على الأراضي السورية بين حليفين للولايات المتحدة، أو النصر النهائي للرئيس السوري بشار الأسد وإيران و«حزب الله» هناك، أو مزيج مروّع ومطوّل لهذه السيناريوهات الثلاثة الرهيبة.

باختصار، هزمت الولايات المتحدة إرهابيي تنظيم «الدولة الإسلامية» في سورية إلى حدٍ كبير، إن لم تكن قد دمّرتهم، وبوسع القوات الأميركية إعلان النصر والعودة إلى وطنها، ولكنه سيكون «انتصاراً» مخزياً في حال أدارت واشنطن الآن ظهرها تماماً لحلفائها الذين ساعدوا إلى حدّ كبير في كسب تلك المعركة، وتقدّم المبادئ التوجيهية للسياسة السابقة مساراً واقعياً لضمان تجنُّب الولايات المتحدة انتزاع مثل هذه الهزيمة من فكّيْ انتصارها على تنظيم «الدولة الإسلامية».

* ديفيد بولوك- واشنطن إنستيوت