في مقدمة كتاب «مذكرات كاريوكا»، تقول رجاء الجداوي عن خالتها في الإهداء: «إلى من كان لها الفضل في تربيتي وتعليمي وتكوين شخصيتي، وزرع كل ما هو قيم بداخلي... افتقدك وافتقد وجودك معي الذي لم يملأ أحد مكانه. إلى خالتي تحية، أحبك. رجاء الجداوي»، فيما يهدي مؤلف الكتاب محمد توفيق إصداره إلى تحية كاريوكا التي وصفها بأنها حولت الرقص إلى فن.يقول توفيق في كتابه إن كاريوكا لا يمكن اختزالها في كونها راقصة حتى لو توجت ملكة للرقص الشرقي، ولا يمكن تفسير حب الناس لها باعتبارها فقط واحدة من علامات الفن المصري، لأن لديها قائمة طويلة من الأسباب التي تجعلها تسكن قلوب الناس وتتربع داخل وجدانهم، ولها مواقف تشهد بإخلاصها وجرأتها في الحق وفي مواجهة حكام مصر، وربما لذلك بقيت تحية وذهب غيرها.
قصة الكتاب الجديد بدأت لدى توفيق مع علمه بالمذكرات وعدم نشرها، فعمل على تجميعها من أماكن مختلفة حتى عثر عليها، وحين قرأها كاملة وجد أنها تبدأ من يوم مولدها في الاسماعيلية حتى بداية الخمسينات، أي قصتها كراقصة فحسب، إذ تجنبت الحديث فيها عن معاركها بين الرقص والسياسة وكأنها اتفقت مع صالح مرسي على البعد عن السياسة وأهلها، خصوصاً أن المذكرات سُجِّلت إبان فترة حكم الرئيس جمال عبد الناصر.كذلك تجاهلت في المذكرات الحديث عن أزواجها الذين يختلف كثيرون في حصر عددهم، ولم تذكر قصة اعتقالها، ولم ترو قصتها مع كبار الأدباء والمثقفين والكتاب الذين أحبوها وساندتهم حينما تخلى الجميع عنهم، فيما انتهت المذكرات بسؤال كتبه صالح مرسي: «هل يستطع أحد آخر أن يمسك الخيط ويكمل الطريق؟!». سؤال كان الدافع لدى توفيق لإكمال القصة التي توقف سردها عند بداية الخمسينات، فذهب إلى ما روته تحية كاريوكا في حواراتها الصحافية والتلفزيونية والإذاعية، في رحلة بحث عثر خلالها على يوميات كتبتها بنفسها واطلع فيها على كتب تناولت سيرتها وعلى أحاديث المقربين منها، ليروي الكتاب الجديد حكايتها مع 17 زوجاً وأربعة رؤساء وملك.
روايات مختلفة
يقول توفيق في الكتاب عن رحلة بحثه: «كل شيء في تحية مختلف عليه حتى تاريخ ميلادها، لا جواب نهائياً فيه، فالبعض يؤكد أنها ولدت في فبراير 1919 بينما البعض الآخر يجزم بأنها ولدت في عام 1921. وثمة من يقول إنها تزوجت 13 رجلاً، بينما يؤكد المقربون منها أنها تزوجت 17 مرة، وأن بعض الأزواج لم تُعلن أسماؤهم. وقيل إنها دخلت السجن في كل العصور، لكن لا يوجد دليل واحد على ذلك إلا بعض أحاديث نقلت عنها، فالمؤكد أنها دخلت السجن مرة واحدة في نوفمبر 1953 ولكن عدد الأيام التي أمضتها ظل محل خلاف، إذ ثمة من يؤكد أنها قضت في السجن 101 يوم وثمة من يقول إنها مكثت فيه 99 يوماً، وثمة من يصر على أنها لم تبق في الحبس سوى أسبوعين».يتابع: «ولم يكن الخلط في تلك القضية فحسب، فثمة من يجزم بأنها من هربت السادات في قضية أمين عثمان وأخفته في مزرعة زوج اختها لمدة عامين، بينما الحقيقة أن السادات لم يهرب في هذه القضية ولكن ظل في السجن حتى حصل على البراءة. أما القضية التي هرب أثناء محاكمته فيها فهي قضية الجاسوس الألماني وظل هارباً لمدة عامين بين محافظات عدة من بينها الاسماعيلية. أما حكايتها مع القصر والملك فاروق، فكانت مليئة بالأحداث اللافتة بداية من منح الملك لها 50 جنيهاً في شيك ليكون أول مبلغ كبير تحصل عليه وتفتح حساباً به في البنك، مروراً بتعفف يدها وترفعها عن المال الذي كان بدأ يأتيها من حيث لا تدري، فكانت إذ طلبت للرقص في إحدى الحفلات الخيرية رفضت أن تتقاضي مالاً نظير رقصتها هذه، وعندما حاولت الأميرة شويكار ذات مرة أن تقدم لها هدية بعدما رقصت في إحدى حفلاتها اعتذرت تحية عن عدم قبول الهدية».دور وطني
من ضمن القصص التي يرويها الكتاب، رفض تحية كاريوكا الرقص إزاء كمال أتاتورك خلال فترة وجودها في اسطنبول لتقديم حفلات، وعللت ذلك بأنها لن ترقص أمام شخص أهان سفير مصر، وهي واقعة سبقت زيارتها البلد بعامين عندما طلب أتاتورك في إحدى الحفلات من السفير المصري خلع الطربوش فانسحب الأخير وطاقم السفارة. وبعد رفضها حزمت حقائبها وقررت العودة إلى مصر بأسرع وقت وكان عمرها أقل من 18 عاماً.الدور الوطني لتحية كاريوكا والذي يتناول الكتاب جزءاً منه تضمن أيضاً مجهودها عندما قامت حرب فلسطين واشتعلت المواجهات بين الفدائيين وقوات الاحتلال على طول خط قناة السويس، فتواصلت مع الفدائيين وراحت تنقل الأسلحة لهم في سيارتها، رغم ما يحمله ذلك من مخاطر عليها.دخلت تحية كاريوكا السجن لمدة 96 يوماً. رغم إيمانها بمبادئ ثورة يوليو ومشاركتها في حملات الدعم التي انطلقت في قطار الرحمة فإن ثمة سببين لدخولها المعتقل، الأول زواجها من الضابط مصطفى كمال صدقي الذي كان أحد الضباط الأحرار ثم انشق عنهم وهاجمهم فصار عدواً لهم، وقيل إن تحية كانت تساعده في توزيع المنشورات التي تهاجم مجلس قيادة الثورة. أما السبب الثاني الذي يردده كثيرون فهو أنها هاجمت مجلس قيادة الثورة قائلة: «ذهب فاروق وجاء فواريق». ولكن لم يعرف أحد على وجه الدقة متى قالت الراحلة هذه العبارة وأين.وخلال فترة وجودها في السجن كان لتحية اسم حركي وهو «عباس»، ولم تصمت في المعتقل فقادت المسجونات إلى شكوى مأمور السجن وجاءت لجنة من حقوق الإنسان وحققت وطالبت المأمور أن يترك الزنانزين مفتوحة في النهار.مواقف تحية كاريوكا الجريئة والمختلفة بداية من انتقاد السادات مع إعلان نيته زيارة إسرائيل وصولاً إلى حديثها مع الرئيس الأسبق مبارك وقولها إن «الناس بتبات من غير عشا يا ريس»، وضعتها دائماً على يسار السلطة فانحازت إلى البسطاء والمهمشين والضعفاء، ولها قصص لا حصر لها من مواقف شجاعة انتصرت فيها لمن لا نصير لهم، فقد أخفت في منزلها المفكر أنور عبد الملك بعدما تمكن من الهرب من السجن وساعدته على السفر إلى الخارج، وتكرر الموقف نفسه مع الصحافي صلاح حافظ.سبب مجهول
المذكرات تعود إلى نهاية الخمسينات، عندما فكر الكاتب الراحل صالح مرسي للمرة الأولى في كتابة مذكرات كاريوكا، وذهب إليها وأخبرها برغبته هذه فوافقت ولكنه وجد نفسه لسبب مجهول يهرب. ثم عاد مرة ثانية إليها بعد سنوات وكرر الطلب إليها فوافقت أيضاً ولكن غيابه هذه المرة لم يكن سنوات بل أسابيع قليلة، ليجلس معها ويسجلا 20 ساعة روت فيها قصة حياتها منذ مولدها وظروفها في الطفولة حتى يوم اللقاء، وهي مذكرات نشرت في حلقات بمجلة «الكواكب» المصرية قبل أكثر من 50 عاماً، فجاءت لتعكس حال البسطاء والحكومات في مصر على مدار فترات مختلفة، بداية من الملك فؤاد مروراً بالملك فاروق والرئيسين محمد نجيب وجمال عبد الناصر... وهي الفترة التي سجلت فيها المذكرات التي رواها صالح مرسي.