شكل تصويت «بريكست» هزيمة على نطاق لم يسبق له مثيل في عصر الاقتراع العام ورفضاً أكثر إذلالاً حتى مما واجهه رامزي ماكدونالد في عام 1924، فقد صوّت نحو 118 محافظاً ضد السياسة الأبرز التي يعتمدها حزبهم، محفزين بالتالي اقتراح حجب ثقة يؤدي في أي حقبة طبيعية إلى سقوط الحكومة في غضون بضع ساعات.السؤال الذي يرغب الجميع في الحصول على جواب عنه: ماذا يحدث الآن؟ كيف بلغنا هذه المرحلة؟ وما أوصل تيريزا ماي، والبرلمان، والبلد إلى هذه اللحظة؟
لا شك أن رسم ماي تلك الخطوط الحمراء شكّل بحد ذاته نتيجة خيار آخر: حسابات سياسية دفعتها إلى الاعتقاد أن أفضل أمل لها يكمن في استرضاء مؤيدي خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي الأكثر تشدداً في حزبها. رأت ماي كيف ابتلع الجناح المناهض للوحدة الأوروبية في الحزب المحافظ البريطاني الكثير من أسلافها، لذلك استنتجت أن سلامتها الخاصة تستوجب استرضاء فصيلها الخاص، إلا أنها أدركت لاحقا ما كان باستطاعة أسلافها إخبارها به: لا يمكن تلبية مطالب المناهضين للوحدة الأوروبية لأن ما يريدونه (التهام الكعكة والاحتفاظ بها في آن واحد) مستحيل. كانت هذه قصة بريطانيا الأوروبية: اعتبرت مراراً ما كان مشروع سلام عملية خداع هدفها سلب البريطانيين أموالهم. لكنها كررت بذلك خطأ اقترفه ديفيد كاميرون في عام 2013 عندما أعلن أنه سيجري استفتاء بشأن بقاء بريطانيا أو خروجها قبل عام 2017، لكن كاميرون يتحمل أيضاً اللوم لطريقة رحيله، فلو أخّر استقالته، لاستمر في السلطة ريثما يوضح ما تعنيه نتائج الاستفتاء، فكان بإمكانه أن يقول، مثلاً، إن البريطانيين صوتوا للخروج من الاتحاد الأوروبي، إلا أنهم لم يصوتوا للخروج من السوق المشتركة أو الاتحاد الجمركي، بما أنهما لم يرِدا على ورقة الاستفتاء.كم سهل على السياسيين البريطانيين القول إنهم يودون العمل على هذه المسألة أو تلك، إلا أن أولئك الأشرار في الاتحاد الأوروبي يكبّلون أيديهم! تحوّلت كل قمة إلى "نزال" بين بريطانيا الشجاعة ودول القارة الأشرار، ولعب الحزبان السياسيان الرئيسان هذه اللعبة. تذكّروا تردد غوردون براون في الخضوع للتصوير أثناء توقيعه معاهدة لشبونة، ونظراً إلى مرارة الحرب التي شُنت ضد أوروبا وطولها، لا يكون المفاجئ قلة أعداد البريطانيين الذين صوتوا للبقاء في عام 2016 بل كثرتها. أو يمكننا الرجوع إلى أبعد من ذلك أيضاً، إذ كان هدف أزمة السويس في عام 1956 شفاء بريطانيا من وهمها الاستعماري، ولكن ما يتضح اليوم أن بريطانيين كثراً لم يتكيفوا مع هذا التغيير، ويقف وراء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، فضلاً عن اعتقادها أن على بريطانيا فصل نفسها عن جيرانها الأقرب، رفضها القبول أننا جزء واحد من اقتصاد أوروبي مترابط، وما زال كثيرون يعتقدون أن بريطانيا "غوليفر" عالمي كبله لوقت طويل الليلبوتيون في أوروبا الصغيرة، لكن هذه تشكّل قراءة خاطئة أساسية لمكانتنا في العالم.كانت هذه قصة بريطانيا الأوروبية: اعتبرت مراراً ما كان مشروع سلام هدفه إنهاء قرون من إراقة الدماء خدعةً صُممت لسلب البريطانيين أموالهم. نستطيع أن نغوص أعمق في التاريخ إلى الحروب المتكررة ضد الفرنسيين، الإسبان، والألمان، أو قد نرجع إلى أبعد من ذلك إلى أول عملية خروج بريطانية قبل نحو خمسة قرون تقريباً عندما سعى الملك هنري الثامن إلى استعادة السيطرة بالانفصال عن روما.بغض النظر عن نقطة الانطلاق التي قد تختارها، تبقى النهاية واضحة جداً، تنتهي القصة على هذا النحو: أمامنا برلمان يشله التردد ويعجز عن تقبل أوروبا، إلا أنه لا يستطيع في الوقت عينه الانفصال عنها. نرى بلداً ضائعاً وهائماً بلا هدف.* جوناثان فريدلاند* «الغارديان»
مقالات
اليسار البريطاني ضائع وهائم بلا هدف
20-01-2019