منذ منتصف أكتوبر، بدأ متظاهرون فلسطينيون يتجمّعون بانتظام عند مكتب رئيس الوزراء الفلسطيني في رام الله للاحتجاج على قانون الضمان الاجتماعي الجديد، وتم تحديد موعد تنفيذ القانون للمرة الأولى في 1 نوفمبر، ولكنه أُجّل لاحقاً من قبل «السلطة الفلسطينية» إلى يناير 2019، ومنذ ذلك الحين خرجت مظاهرات مماثلة في الخليل ونابلس. ويحتج هؤلاء المعارضون بشكلٍ خاص على أحكام القانون، التي يدّعون أنها تفرض أعباءً اقتصادية مفرطة، فضلاً عن احتجاجهم على العملية غير الشفافة التي سُنَّت بموجبها، وحتى عندما وافقت «السلطة الفلسطينية»على تأجيل تنفيذ القانون، رفضت سحبه أو تغييره، واقترحت بدلاً من ذلك إمكانية تعديله بشكلٍ رجعي،

وتم سن القانون في عام 2016 بموجب مرسوم أصدره رئيس «السلطة الفلسطينية» محمود عبّاس، كما هي الحال بالنسبة إلى كل التشريعات منذ تعليق أعمال «المجلس التشريعي الفلسطيني» عقب استيلاء «حماس» على غزة عام 2007. وينص القانون على إسهامات إلزامية من قبل موظّفي القطاع الخاص وعمّاله إلى «مؤسسة الضمان الاجتماعي الفلسطينية» بنسبة 9% لأرباب العمل، و7% للموظفين. وعند بلوغ سِن الستين، يصبح العمال مؤهلين للحصول على معاش تقاعدي.

Ad

وفي ظل الحالة الاقتصادية القاتمة في الضفة الغربية، يدّعي المعارضون أن الخصومات مفرطة، كما يعترضون على الأحكام التمييزية في القانون، مثل حرمان الأرملة من المعاش التقاعدي الخاص بزوجها المتوفى إذا حصلت على وظيفة، في حين لا يخضع الأرامل لقيود مماثلة. أما فيما يتعلق بالإجراء، فقد شجب المتظاهرون عدم التشاور خلال صياغة مشروع القانون وسنّه، لأنه لم يتم إشراك نقابات العمّال وممثّلي القطاع الخاص ومنظّمات المجتمع المدني. كما يعربون عن قلقهم من عدم استقرار «السلطة الفلسطينية» وفسادها الكبير بحيث لا يمكن الاعتماد عليها بشكل موثوق في إدارة الأموال التي تجمعها «مؤسسة الضمان الاجتماعي الفلسطينية».

السياق الاقتصادي

توضح أرقام البطالة الكفاحات التي يواجهها سكّان الضفة الغربية، إذ تبلغ نسبة البطالة الإجمالية نحو 18%، لكنّ هذا الرقم يرتفع بشدّة ليبلغ نحو 40% لمن هم دون سن الثلاثين، ووفقاً لـ«البنك الدولي»، يشهد اقتصاد الضفة الغربية «تباطؤاً» ويعاني مستوى المعيشة من «الركود». وبالفعل، تشغل القضايا الاقتصادية بال العديد من الفلسطينيين أكثر من غيرها، إذ يشير الكثيرون منهم- 26% من الذين شملهم استطلاع «المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية» في ديسمبر 2018 - إلى أن البطالة والفقر هما المشكلتان الأكثر جدّيةً اللتان تواجهان المجتمع الفلسطيني.

وعلى الصعيد السياسي، تفقد «السلطة الفلسطينية» وقادتها المصداقية، إذ وصف 53% من الذين شملهم الاستطلاع هذه «السلطة» بأنها تشكّل عبئاً على الشعب الفلسطيني، وقال ما يقارب الـ64% منهم إنهم يريدون استقالة عبّاس. وفي حين يمكن أن يعزى الكثير من هذه السلبية إلى فشل عملية السلام، إلّا أن المخاوف الداخلية تؤدّي أيضاً دوراً أساسيّاً. ويعتبر نحو 80% من الفلسطينيين أن مؤسسات «السلطة الفلسطينية» فاسدة، في حين يعتقد 25% من الذين شملهم الاستطلاع أن الفساد هو المشكلة الأساسية التي تواجه الفلسطينيين. وفي حين أن غياب العملية التشريعية قد يشكّل نتيجةً ثانويةً- لا يمكن تفاديها- للانقسام بين «حماس» و«السلطة الفلسطينية»، إلا أن «السلطة الفلسطينية» لم تعوّض عن ذلك من خلال تطبيق آلية استشارية بديلة يمكن من خلالها إشراك مختلف المنظمات الفلسطينية التي تمثّل أصحاب المصلحة.

العواقب المحتملة

تشبه هذه المؤشرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في الضفة الغربية تلك الدوافع التي كانت وراء ثورات «الربيع العربي» قبل نحو ثماني سنوات. لكن وبالرغم من نقاط الشبه، يتخبّط المحتجّون الفلسطينيون في مجموعة فريدة من التحديات، مقارنة بالمجتمعات العربية الأخرى، التي كانت تحد في الماضي من انتشار الاحتجاجات الاجتماعية والاقتصادية.

ويتمحور أحد هذه التحديات حول الاحتلال الإسرائيلي، الذي يوفر إمكانية خدمة هذه الاحتجاجات للمصالح الإسرائيلية، أو على الأقل توجيهها هذا الاتهام، بالإضافة إلى ذلك فإن الإجراءات الإسرائيلية المحددة تحوّل بسرعة أولويات الناس بعيداً عن الهواجس المحلية وباتجاه القوّة المحتلّة. وبالفعل، فقد تمّ تعليق الاحتجاجات على القانون بعد أن بدأت القوات الإسرائيلية عملياتها في رام الله في 10 ديسمبر، بعد شن هجومٍ إرهابي في اليوم السابق. ثانياً، يؤدي الانقسام بين «السلطة الفلسطينية» و«حماس» إلى خلق مشاكله المحيّرة الخاصة به، حيث يشعر الكثيرون في الضفة الغربية بالقلق من إمكان استغلال احتجاجاتهم سياسيّاً من قبل «حماس» ضد سياسات «السلطة الفلسطينية». أما التحدي الثالث فليس بالضرورة مختلفاً بالنسبة للفلسطينيين: أي نحو 61% من سكّان الضفة الغربية و50% من سكّان قطاع غزة يعتقدون أنه لا يمكنهم انتقاد «السلطة» دون خوف، مما يساعد في تفسير امتناعهم في الماضي عن المشاركة في الاحتجاجات المحلّية.

وبالنظر إلى كل ذلك، يشكّل واقع نزول الفلسطينيين إلى الشوارع للاحتجاج، واستمرار هذه الاحتجاجات، مؤشّراً مثيراً للقلق على مستويات التقلب في الضفة الغربية، فكما اتضح ضمنياً، فإن الإحباط العام ضد «السلطة الفلسطينية» يمكن أن يتحوّل- أو يتم توجيهه- بسهولة ضد إسرائيل، وعلى الرغم من تحسّن الكفاءة المهنية لقوات أمن «السلطة الفلسطينية» وفعاليتها، فإن الشرعية السياسية المتفككة لـ«السلطة الفلسطينية» تعقّد ممارسة الرقابة الأمنية. وفي الحالة المتطرفة، قد يؤدّي استمرار عدم الشرعية حتى إلى انهيار «السلطة الفلسطينية»، مما قد يُنشئ فراغاً أمنياً وسياسياً. وإلى جانب الوضع الأمني المتوتر بشكل عام، ومع الجهود المستمرة التي تبذلها «حماس» لزعزعة الاستقرار في الضفة الغربية، قد يشكّل ذلك مزيجاً متفجّراً له تأثيرات ليس على الفلسطينيين فحسب بل على أمن إسرائيل أيضاً، وكما يتضح من الاحتجاجات ضد قانون الضمان الاجتماعي، فإن المشاكل السياسية الداخلية لـ«السلطة الفلسطينية» ليست مشكلة فلسطينية فحسب.

توصيات في السياسة العامة

لم يعد الاستقرار في الضفة الغربية من المسلّمات، بإمكان المجتمع الدولي اتخاذ إجراءات قد تضع حدّاً للتدهور السياسي والاقتصادي والأمني، ونظراً إلى عدم احتمال إحراز تقدّم في عملية السلام، يجب اتّباع سبل أخرى لتحقيق الاستقرار، حيث تشكل التدابير الاقتصادية محوراً مركزياً بينها، ويمكن أن تساهم الولايات المتحدة من خلال إعادة بعض المساعدات المالية للفلسطينيين بقيمة 200 مليون دولار والتي تم إيقافها في أغسطس 2018، وتركيز هذه المساعدة على المشاريع التنموية والاقتصادية الفلسطينية. ويجب تشجيع إسرائيل على النظر في اقتراحات إضافية- صدر الكثير منها عن «جيش الدفاع الإسرائيلي» - من أجل تحسين نوعية الحياة في الضفة الغربية. وتشمل هذه الاقتراحات زيادة إمكانية دخول الفلسطينيين إلى سوق العمل الإسرائيلي، وإنشاء مناطق صناعية في الضفة الغربية، والسماح بأعمال البناء الفلسطينية في المناطق المتاخمة للبلدات الفلسطينية المتصلة بها.

إلّا أن الإجراءات الاقتصادية وحدها لن تعكس المكانة المتداعية لـ«السلطة الفلسطينية»، لذلك يجب تجديد التركيز على بعض المسائل مثل الحوكمة الفلسطينية، ومكافحة الفساد، وتخفيف القيود على الحياة السياسية في المناطق الخاضعة لسيطرة «السلطة الفلسطينية»، فبدون إحراز تقدّم على هذه الجبهات، ستستمر «السلطة الفلسطينية» في فقدان شرعيتها، وسيبقى دورها محدوداً كعامل للاستقرار في الضفة الغربية - وعلى المدى الأبعد- كسلطة قادرة على تقديم التنازلات اللازمة للتوصل إلى اتفاق سلام.

* غيث العمري وماديسون ريندر