محمد وثلج المدينة البعدية*
رشت السماء خيراتها على شكل ثلج ناعم يبدو وكأنه قطع من القطن المصري الأصيل تسقط لتملأ الأفق فتحجب بعض الرؤية، وتخلق غلافا ناصع البياض لصباح هذه المدينة. ما إن تسقط حبة الثلج على اليابسة حتى تذوب بدفء الأرض. والناس تتحرك سريعا مرتدية كل ما تملك ليحميها من قساوة هذا الموسم الشديد البرودة رغم أن ليس كل البرد يبعث على الاكتئاب بل كثيرٌ منه يرسم مشاهد جميلة، ويأتي بالتنوع الذي هو حتماً مصدر لبهجة خاصة، فقط السكينة واللون الواحد هما من يحولان الأيام إلى لحظات طويلة من الحزن. يمتلكك إحساس بالبهجة المبهرة عندما تشاهد صور عواصف الرمل في الأرض الواسعة التي هي وطنك الكبير، كما سمعت في تلك الأغنية، وأنت طفل في بيت واسع بغرف كثيرة، حيث هي مسكن كل العائلة، غرفة أو غرفتان لكل عائلة، وحوش بمرجيحة "دورفه" وحظيرة للأرانب على سطح المنزل، يلعب معها الأطفال بمختلف أعمارهم وآخرون يربون الحمام أو الطيور على سطوح المنازل التي تتحول في الصيف إلى غرفة نوم واسعه بسرائر مصطفة الواحد جنب الآخر، حيث السمر ومراقبة النجوم في سماء الخليج التي كانت أكثر صفاء من الزلال. كل ذلك قبل أن تختنق مدن الخليج بالمكيفات.
في تلك المراحل البعيدة كان للخليج فصوله أيضا، فلم يكن ذا فصل واحد فقط، صيف حار طوال العام مع تقطعات بسيطة من التحول إلى درجات إنسانية! كان هناك شتاء حتى لو كان قصيرا، وصيف وما بينهما، وبعض الشتاء يشهد تساقط الأمطار، حتى أن الأطفال يخرجون للشوارع ويغنون "طق يا مطر على قطر والشمس طالعة"!! ولم تكن الشوارع تطفح كما الآن ولا تثور البواليع فتقذف بأوساخها على الطرقات. وفي شتاءات أخرى شهد الخليج تساقط البرَد، حيث يخرج الناس ويجمعون البرَد وبعض الأطفال يأكلونه وكأنه آيس كريم من السماء!! وعرفت المدارس مع بداية فصل الشتاء حملة التبرعات الشتوية في المدارس، حيث يبدأ الأطفال بالتربية على أخلاقيات التضامن والتعاطف مع زميلاتهم وزملائهم ممن هم أقل حظاً ولا يملكون القدرة على شراء ملابس الشتاء ومستلزماته، كانت المدارس للتربية والتعليم، وبالفعل ساهمت العديد من المعلمات والمعلمين في غرس مبادئ وقيم وأخلاق ما زال الكثيرون منا يتذكرونهم بالخير. لم يكن في تلك الحملات شيء مما يجري الآن على يد الكثير من الجمعيات الخيرية، التي تجمع المبالغ والملابس للمحتاجين، ولكن دون صون لكرامتهم واحترام لذاتهم، في تلك الأيام كانت الحملات تبدو تضامنية وليست بحاجة لمشاهد وصور الاستعطاف ونشر الكآبة والبؤس التي تقوم بها معظم الجمعيات الآن، ليس في الخليج فقط بل في كل الوطن العربي، فلا تنسوا شهر رمضان والإعلانات التلفزيونية المقززه لجمعيات لا تفقه معنى التضامن، بل تحولت إلى شكل من أشكال التجارة بمآسي البشر، وخصوصا من هذه الجمعيات تلك التي تحمل صبغة دينية مع شديد الأسف!! وكأن الدين ارتبط لديهم بكثير من الكآبة والتخويف والتهديد. ذاك الدين نفسه الذي قالت معلمة الرابع الابتدائي "إنه دين يسر لا دين عسر، وإن الله غفور رحيم"، وكثير من تلك العبارات التي تبعث على التسامح والمحبة في حين شيوخ الدين احترفوا "أفلام الرعب" والتخويف والتسطيح والتجهيل!تبدو هذه الذكريات البعيدة متلاصقة مع مشاهد الثلج في هذه المدينة الحداثية والبعيدة جداً عن اللمسات الإنسانية، يسقط المساء سريعاً في شتائها، ويطول الليل أطول فأطول، ومعه تزداد درجات الحرارة في الانخفاض والمؤشرات على الألواح المعدنية عند كل رصيف تشير إلى طقس شاق وبرد قارس. يقف محمد، الشاب العربي القادم حديثا، عند عربة الفواكه والخضراوات، فهو مسؤول "نبطشية" الليل من السابعة إلى السابعة، وهو القادم من دفء حضن أهله في بلده الذي يمتاز كل ناسه بالدفء المعتق في تلك الحضارة البعيدة، يقف وحيدا لا رفيق له سوى كثير من أحلامه التي حملها كما حقيبته الصغيرة ببعض الملابس وصور والدته وعائلته هناك في بلدته التي تبدو اليوم وكأنها في كوكب آخر. من أحلامه ألا يطول هذا الوقوف الليلي عند الأرصفة المتجمدة، وأن يتحول إلى سائق "أوبر"، هذا حلمه المتواضع جدا أن يتحول من بائع للخضراوات إلى سائق لسيارة أجرة فقط لا غير! رغم أنه يمتلك بعض التعليم وكثيراً من الأدب واللطف، عندما تقسو عليه الطبيعة في الليل وتسقط السماء كتلها المتجمدة، يحتمي هو في مدخل العمارة المجاورة، وعينه على عربته وعين أخرى تريد أن تغفو في حضن كوب من الشاي المخمر!! محمد لا يرى في هذا الثلج الأبيض كقطن بلده أي جمال، وهو يتساقط من حوله حتى يغطي الأرض وما عليها، وحتى تتجمد أطرافه هو فيفقد شيئا فشيئا الإحساس بها.. هو الذي لم يتصور أن في بلد الأحلام ينام البشر على الأرصفة، ويتجمدون حتى يأتي عامل النظافة ليكنس الأرصفة وما عليها، فيصبحون هم رقماً آخر من سكان الأرصفة ضحايا شتاء المدينة وقسوة التحضر والتمدن السطحيين!!* ينشر بالتزامن مع "الشروق" المصرية