النفي والهجرة والاغتراب
تبدو هذه المصطلحات متشابهة نوعا ما، فجميع هذه المصطلحات ترتبط بالفرد وعلاقته بوطنه الأم والوطن البديل الذي قرر اختياره أو أُرغم على اختياره كوطن بديل. وبين هذه المصطلحات حدود، تبدو واهنة للوهلة الأولى، ولكنها في الواقع مؤلمة حين نقوم بتفكيكها. تحمل كل مفردة من هذه المفردات قسوتها الخاصة، ولكل حالة من الحالات الثلاث ألمها الذي من شأنه أن ينهي حياة مستقرة كان يعيشها الفرد في وطنه الذي تآلف معه اجتماعيا وتاريخيا وإنسانيا ولكنه اختلف معه سياسيا في لحظة ما. هذا الاختلاف السياسي، في الغالب، هو السبب الرئيس في الوصول إلى إحدى هذه الحالات التي يحملها العنوان أعلاه. وهذه الحالات، للأسف الشديد، هي التي تنال من أصحاب الفكر السياسي أو الثقافي والأدبي التي ترى الدولة أن وجودهم يشكل قلقا داخل المجتمع.الحالة الأولى وهي النفي Exile أن تقوم الدولة بنفي المفكر أو الأديب خارج حدود الوطن في محاولة لإخماد صوته ومنع تواصله مع جماهير الداخل. وكان ذلك مؤثرا في زمن الشاعر البارودي، لكنه لم يعد ممكنا الآن في ضوء هذا التقارب بين الكلمة والجماهير. المصطلح الثاني والأكثر شيوعا حاليا هو الهجرة Emigration. الهجرة اختيار الفرد، وليس فرض السلطة في الغالب، رغم أن سبب الهجرة هو ضغط السلطة على الفرد لاتخاذ قرار كهذا. يختار الفرد بلدا يرى أنه أكثر أمنا لمستقبله وينتقل من حياة إلى أخرى. في حالة كهذه يكون التحول من حياة إلى أخرى شبه أبدي وتصعب فيه العودة إلى الحياة السابقة. على سبيل المثال تختار أستاذة القانون فاطمة المطر الهجرة كحل لمواجهة احتمال تعرضها لمحاكمة نتيجة رأي. وبالتأكيد ليس من السهل على من رتبت حياتها للعيش في استقرار في بلدها أن تحمل لقب "لاجئ" أو مهاجر للعيش به بعيدا عن وطنه. الحالة الأخيرة وهي الاغتراب Expatraite وتلك حالة يختار فيها الفرد، وغالبا الكتاب والأدباء، بلدا مؤقتا للعيش فيه حتى تتغير الأوضاع في الوطن الأم ليعود هؤلاء المغتربون إلى بلادهم.
المشكلة الكبرى هي أن تتلاشى فرصة تحقيق أي من تلك "الميزات" الثلاث. حين يعجز الفرد عن الحصول على منفى وعدم تمكنه من استيفاء شروط هذه الهجرة وعجز أوراقه ومستنداته من أن ينال شرف هذه الميزات. وهي الحالة التي يعانيها البدون على سبيل المثال. الأطباء البدون الذين عاشوا سنوات الدراسة الطويلة لتحقيق أحلامهم معتمدين على أنفسهم ماليا ليكتشفوا أنهم بلا عمل يليق بتخصصهم، سيكون بقاؤهم في وطنهم صعبا في ظل هذا الظرف الاجتماعي الصعب، ويزداد صعوبة في حصولهم على فرصة الانتقال من بلد إلى بلد في ظل متاهة المستندات التي يعانونها. أفهم وأتفهم علاقة المرء بوطنه وتعلقه بتاريخه وماضيه وحياته التي يعيشها في مجتمعه، ولكنني أيضا لا أجد سببا للموت البطيء في هذه الحياة. ليس هناك أقسى مما ستؤدي إليه هذه الحالات، وليس هناك أكثر شراسة من أنياب الغربة، ولكن الكي هو العلاج الأخير. المشكلة حين لا يتوفر هذا العلاج.