يسعى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى التوصل إلى جواب يتعلق بسؤال يقض مضجعه، وعندما بدأت حركة السترات الصفراء موجة الاحتجاجات في فرنسا في شهر نوفمبر الماضي عاملتها حكومة ماكرون على أنها واحدة من الحركات التي يمكن تجاهلها، ولكن بحلول شهر ديسمبر قرر الرئيس التحرك معتبراً أن استمرار المظاهرات الأسبوعية يشكل تهديداً لأهداف سياسته، وجاء رد ماكرون على شكل خطاب وطني أعلن فيه أجندة جديدة تشمل تنازلات اقتصادية مثل إلغاء زيادة أسعار البنزين ورفع الحد الأدنى للأجور.

وعلى أي حال لم تكن تلك التسويات كافية من أجل وضع حد لموجة الاحتجاجات، كما أن اتساعها لم يكن يشكل تحدياً سياسياً فقط، بل أزمة أساسية تتعلق بشرعية ماكرون والجمهورية الخامسة في فرنسا، ويقول المحتجون إن اعتراضهم لا يستهدف قرارات الحكومة، بل أسلوب الديمقراطية الذي يمثله النظام الدستوري في البلاد.

Ad

وحرص ماكرون على عدم التهرب من التحدي الأساسي الذي تمثله حركة السترات الصفراء، وتحدث مباشرة في خطاب في شهر ديسمبر الماضي عن إطلاق ما وصفه بـ»جدال وطني كبير» حول السياسة الفرنسية.

وإذا كان هذا كله سيدفعك إلى الظن بحادث مماثل في التاريخ الفرنسي فأنت لست وحدك في هذا التفكير، ويرجع ذلك إلى أن الثورة الفرنسية تمحورت بعد 230 سنة على اندلاعها حول الأحداث الراهنة في البلاد، وقد دعا لويس السادس عشر مواطنيه إلى حوار وطني، وفي تلك الحالة أفضت دعوة الملك الفرنسي إلى قائمة من المظالم كتبها عدد من الممثلين الذين تم اختيارهم محلياً، وأرسلت إلى قصر فيرساي في سنة 1789، وكانت ممارسة غير مسبوقة ليس في فرنسا القرن الثامن عشر فقط بل في شتى أنحاء أوروبا حول حرية التعبير.

التجربة الحالية

في التجربة التي تعيشها فرنسا اليوم دعا قادة المدن والبلدات– لا ماكرون– إلى كتابة تلك المظالم، وكان اللافت أن الشكاوى من أعباء الضرائب كانت هي نفسها في العهد الملكي وفي الوقت الراهن.

ولكن الاتفاق الواضح كان حول وضع الدولة في الماضي والحاضر، وتركزت المظالم حول فرض ضرائب غير عادلة فيما تصر على فرض الدولة درجة أوسع من العدالة الاقتصادية والاجتماعية، وكما لاحظ المؤرخ سيمون شاما فإن معظم أبناء الشعب الفرنسي في القرن الثامن عشر «كانوا يريدون وجود دور أكبر للحكومة في المناطق الريفية»، ويبدو أن هذه هي المطالب التي تطرحها المناطق الريفية والضواحي في فرنسا في القرن الحادي والعشرين، وخصوصاً مع الإصرار على فرض الدولة فكرة محددة من المساواة، وفي هذا الشأن كان مطلب الحركة الأكثر أهمية يتمثل بإجراء استفتاء بمبادرة من المواطنين، وكما هو متوقع فإن هذه الآلية المقترحة للديمقراطية المباشرة التي تسمح لأي اقتراح بأن يعرض على استفتاء شعبي بعد حصوله على 700 ألف توقيع إنما يحرم أعضاء الحكومة وقادة الأحزاب التقليدية أيضاً من النوم.

الجدال الحاد

ومن المؤكد ربما أن الجدال نفسه تحول الى نوعية حادة، وعلى سبيل المثال عندما تم الكشف عن راتب شانتال جوانو، وهي وزيرة سابقة في عهد الرئيس ساركوزي، والتي كلفت بالإشراف على اللجنة المكلفة بالإعداد للجدال وتبين أنها كانت تتقاضى نحو 16800 دولار شهرياً أرغمتها حركة السترات الصفراء على التنحي عن دورها كمهندسة للجدال، ومن المفارقة أن جوانو لم تقرر التنحي عن عملها رئيسة للجنة وستستمر في تلقي الراتب نفسه الى أن يقرر الرئيس ماكرون إنهاء عملها.

وتجدر الإشارة إلى أن رسالة ماكرون قد أثارت موجة من الألعاب النارية السياسية في باريس، وفي محاولة لإنقاذ ما تبقى من إصلاحاته الاقتصادية لم تذكر رسالة ماكرون الطلب الذي يحظى بشعبية واسعة، وبدعم من نحو 80 في المئة من الفرنسيين من أجل استعادة ضرائب الثروة التي أخفاها ماكرون بعد وصوله الى سدة الرئاسة.

من جهة أخرى أثار ماكرون قضية الهجرة مشيراً إلى أن فكرة وضع حصص يجب أن تتم دراستها، وقد فوجئت شريحة واسعة من اليسار والوسط باقتراح ماكرون لأنه كان يدافع منذ زمن عن أهمية الهجرة.

وهكذا عمل هذا الجدال على تخفيف الخلافات في أوساط حكومة ماكرون، وقد قرر رئيس الوزراء إدوارد فيليب مع وزير المالية برونو لومير ومدير الميزانية جيرالد دارمانين الاستقالة من حزب الجمهوريين المحافظ بسبب الشكوك في أن الجدال سيفتح صندوق باندورا، ولن يتمكنوا من إغلاقه قط.

وعلى الرغم من ذلك أيدت شخصيات حكومية أخرى إجراء الجدال مثل مارلين شيابا التي انجذبت إلى حزب ماكرون اليساري، وشيابا التي تعمل كسكرتيرة للمساواة بين الرجال والنساء صرحت أنها «ستتصدر العملية»، وخصوصا بما يتعلق بالمرأة من أطراف فرنسا، وعلى أي حال فقد كان البعض الآخر مثل وزير التربية جان ميشيل بلانكر أقل حماسة، وقد أصر على اتباع تقاليد فرنسا الديمقراطية.

ولكن المحتجين يحرصون على تغيير الديمقراطية الفرنسية، وفيما يتعلق بجمعية رؤساء بلديات الريف فإن المكسب الأكبر الذي يمكن أن يتحقق من مظالم دوائرهم الانتخابية يتمثل بـ»تعلقهم بمبدأ المساواة» الذي يفضي بدوره إلى تماثل آخر وأكثر إثارة للقلق بين 1789 و2019.

وتجدر الإشارة إلى أن مطلب القدر الأكبر من المساواة لا يسير جنباً إلى جنب دائماً مع تحقيق درجة أوسع من الحرية، وعلى الرغم من ذلك فإن الحرية الأوسع– وخصوصا في ميدان الاقتصاد– هي التي سعت إليها النخبة الفرنسية في القديم وتسعى إليها الآن، ويصر اقتصاديو القرن الثامن عشر على حرية الصناعة والتجارة والمصدرين لأنهم يعتقدون «أن المواهب يجب ألا تتعرض الى أي قيود أو عوائق».

وبالمثل، هي مقالة ثقة بالنسبة إلى الليبراليين الجدد من أمثال ماكرون أن تزدهر فرنسا نتيجة تخفيف القيود الحكومية على الصناعيين وقادة الأعمال، وفي العام الماضي قارن ماكرون في أحد مزاعمه الكثيرة المثيرة للجدل بين الاقتصاد الفرنسي وبين تسلق الجبال وقال «إذا بدأ أحد ما بقذف الحجارة على أول متسلق فإن الفريق كله سيسقط».

السترات الصفراء

وكما كشفت موجة الاحتجاج التي قادتها حركة السترات الصفراء فإن الشعب الفرنسي لا يكافح فقط مع عناصر– أو بعضه مع بعضه الآخر– بل مع مثل متنافسة، وفي كتابه الكلاسيكي في القرن التاسع عشر بعنوان «النظام القديم والثورة الفرنسية» لاحظ أليكسز دو توكويفيل أن الشعب الفرنسي يخضع لعاطفتين حاكمتين هما: الرغبة في الحرية ومطالب المساواة.

وكما تذكرنا سلسلة الثورات الفرنسية وردود الفعل فإن هاتين العاطفتين تتضاربان بقدر أكبر من إتمام الواحدة للأخرى، ثم إن «الجدال الكبير سيساعد على تحديد ما إذا كان قادة فريق متسلقي الجبال يستمعون إلى أولئك الذين يتبعونهم بالكثير من الجهد والإعياء».

روبرت زاريتسكي– فورين بوليسي