نقطة : ثمان سنوات بالزبط
القاهرة اسم على مسمى، لكن لم يكن أحد يعلم من كانت ستقهر هذه المرة، نزل الشباب إلى الشوارع والميادين فانسحبت الشرطة ومدرعاتها من الواجهة والأزقة الخلفية، تاركة وراءها الفراغ والفوضى والذهول. كانت الاعتصامات قد بدأت احتجاجاً على عنف وزارة الداخلية، في يوم عيد أفرادها، وكانت إقالة الوزير كافية لإنهائها. تجاهُلها أدى لانقلاب الآية، تمهيداً لانقلاب المشهد، فارتفعت وتيرة الأحداث والمطالبات في "جمعة الغضب" إلى سقفٍ أعلى، شعاره الرئيسي "إسقاط النظام"، الذي اختار وزير داخليته بيده وقرر إبقاءه، وسريعاً ما استدعت الذاكرة الجمعية كل القضايا العالقة والمستمرة، من تراكم للفساد، إلى غرق العبارات، وصولاً لتزوير الانتخابات، ولتجر خلفها تاريخاً حافلاً من الإخفاقات والأزمات الاقتصادية والاجتماعية، فانقلبت المطالبة بالحد من تفاقم عنف وزارة الداخلية، من هدف وحيد في البداية، إلى قضية ثانوية من ضمن حزمة قضايا، وأصبحت مجرد عامل إضافي وفعال للحشد والتأثير، بعد ارتفاع سقف المطالبات لأعلى حد ممكن.أكثر ما أثار استغراب ودهشة الناس أمران: أولهما سرعة انهيار النظام الأمني المتين واختفاء رجال الشرطة، وإن كان الكثيرون يرونه انسحاباً تكتيكياً مفتعلاً بقصد إثارة المخاوف وإلهاء الناس بأنفسهم، والأمر الآخر الذي أدهشهم وأثار إعجابهم في نفس الوقت هو قدرة شباب تربى ما بين حواري "الفيسبوك" ونوافذ "اليوتيوب" وشوارع "التويتر"، وبدون أية قيادة أو شخصية معروفة، على تنظيم حركة بهذا الحجم لم يكن يُتوقع لها كل هذا النجاح والصدى، فلم يكن العالم قد انتبه بعدُ لحروب الجيل الرابع وتأثير الإعلام والقوى الناعمة ووسائلها الجديدة وقدرتها على صناعة الأحداث. وعلى عكس المعتاد في الثورات وضرورة الإعداد السري لها، فإن الموعد هنا كان معلناً ومحدداً منذ فترة طويلة نسبياً، إلا أنه لم يثر اهتمام رجل الشارع العادي، ولم يأخذها الغالبية على محمل الجد، وبدأت خافتة في موعدها، مما أكد هذا الانطباع، حتى جاء يوم الجمعة، فحدثت الانعطافة التاريخية، فتحولت من انتفاضة "إلكترونية" نخبوية شبابية، إلى ثورة شعبية عارمة أنطقت الرئيس بخطابه الأول، وأسقطت الحكومة، وملأت الشارع فراغاً وانتظاراً، في بلد التسعين مليون إنسان.