هي الكلمة*
هي ما تبقى بعد كل شيء، لم يعد بالمستطاع أن تقول إنهم قد ينسون تلك الكلمة التي قيلت أو كتبت في فضاء ما يوما ما، فعندما ترحل بعيداً أو قريباً أو حتى إلى ما تحت التراب، اعرف أنها ستكون الأثر الذي يبقى منك لا ذاك الولد أو البنت والسلالة، مهما كان اسمك واسم قبيلتك ومهما كانت العائلة التي زودت بألف لام مؤخراً أصول الوجاهة والتأكيد على أنك قبلي حتى النخاع! ستبقى هي أيضاً أقوى من ألف لامك واسم قبيلتك.يكتب التاريخ المنتصرون لكن يتسلل المنهزمون من كوة في جدار التاريخ، ويصفون كلماتهم ورواياتهم هم أيضا، للحظة التاريخية زوايا كل يبصرها من زاويته، فلا توجد رواية واحدة ولا حقيقة واحدة قبض عليها المستبدون ليصبح نيرون من زرع مليون زهرة ولم يحرق روما، وغاندي المسالم الذي طارد المستعمر بثوب من الكتان الأبيض وعصا يستند إليها لا يضرب بها فيما تسللت الحقائق عن ممارساته في جنوب إفريقيا وعنصريته ضد الأفارقه السود سكان البلد الأصليين. الكلمة أقوى من السيف، فدون قطرة دم تبقى هي تنحت في ذاكرة المكان والزمان، ترسم صورا جديدة بعضها حقيقي جداً، ورغم كل رواياتهم تنفذ الكلمة بين الكتب والأسطر المتراكمة وتأخذ موقعها ليقرأها أحد أو يراها فيبقى النور أقوى من ظلمتهم وظلامهم.بعضهم أدرك قوة الكلمة حتى قبل أن تتحول إلى كندل وإلى صور وإلى محركات بحث وإلى فيديوهات توثق الكلمة بالصوت والصورة، بعضهم خشي الكلمة وهي في مهدها، وراح يقول ولكن سأرحل أنا وتبقى كلماته، هو في ذاك الكتاب الموثق، سأتحول إلى شاهد في مقبرة المحرق بين شواهد عدة وسيدفن هو ربما قريبا مني، حيث هناك لا "تاجر" ولا فقير، كلنا نصطف في شبر قرب شبر بين تراب وفوقك بضعة صخور، سيخرج هو كل مساء من قبره ويمد لسانه لي: سيقول أين ملايينك وأنا الفقير أنام بالقرب منك ومعي سطرين في كتابي "من البحرين إلى المنفى... سانت هيلانه"، وهو الكتاب الذي وثق أيام الهيئة الوطنية في البحرين في نضالها ضد المستعمر؟ أنا كتبت من هناك وأنا أجلس في تلك الجزيرة البعيدة النائية أحن لليل البحرين من قراها حتى مدنها الدافئة، أحن لرائحة خبز التنور الساخن في الصباح وقطعة من الجبن وكوب شاي بالحليب تقدمها أمي. وأنا أعيش أول تجربة لي بعيداً عن وطن عشقته، في حين الآخرون الذين وقفوا يتفرجون علي أنا ورفاقي وهذه أسماؤهم سردتها في صفحات الكتاب حتى تبقى هي أقوى من نفيهم وسجنهم وموائد طعامهم الفاخرة.
الكلمة حتى أقوى من سيوف الدواعش التي قطعت رقاب النساء والرجال والأطفال، الآباء منهم والزوجات والأبناء، سترحل ويختفي "داعش" يوما كما حضر فجأة، قد يظهر بمسمى جديد ولكن ستبقى كلمات بعض من التحق بهم ودون انتهاكاتهم للدين الإسلامي الذي باسمه قتلوا واغتصبوا ونهبوا وباسمه حللوا وحرموا، صوت المرأة والجلوس قربها ووجهها وأطراف أصابع قدميها، كلها حرام حرام، سيرحلون إلى مواقع في بعض الكتب وستكون الكلمة هي الباقية وهي الأقوى. مرت ذكرى 25 يناير والبشر كل البشر في الميادين التي تفتحت فيها الزهور بدماء شباب وشابات، سيقول كثيرون ما يقولون، وستبقى كلمات "حرية، عيش، عدالة" أقوى من كل مطبليهم وصحافييهم والقابضين منهم، ليس القابضون على الجمر بل القابضون للدنانير والدراهم والدولارات واليورو وكل العملات، كتب أولئك الحالمون كلمات وحولوها إلى صور طارت في سماء الكون، رحلت من مدينة إلى أخرى ومن قرية إلى نجع وبلدة حتى أصبحت هي كما الثورة الفرنسية الأولى نقطة تحول في تاريخ العالم سواء أحب بعضهم أم كرهوا. هي الكلمة نقلتها مواقع متعددة فتحولت إلى انتفاضة، ثم كلمة في الميدان فكانت الثورة التي لم تسكن بعد، بل لا تزال تنشر رائحتها الزكية وفاء لتلك الزهور التي تفتحت في الجناين.من يخشَ السيف ولا يخف الكلمة فهو إما لم يقرأ التاريخ إلا من خلال بعض الجرائد الصفراء والكتب الأكثر اصفرارا وخواء، أو أنه كما ذاك الصبي الذي ردد على تلك الشابة القارئة النهمة عندما ناقشته عن قضية فلسطين فردد عليها باستخفاف شديد "لا أريد أن أقرأ أكثر فقد حددت موقفي وأصبح عندي الآن رأي"، عجبي منك ومنهم، فنصحته ألا يقرأ طويلا فقد يصاب بهلع الكلمة، ولكن ليستشير صديقه "غوغل" فهو الآخر قبض على الكلمة ووصفها في وجه كل القادمين المكذبين والمصدقين ومدعي الثقافة وحاملي لقلب الدال قبل أسمائهم أو ألف لام!! ستبقى الكلمة أكثر حضوراً من زنازين وسجون ووقائع مزورة، تلك التي كتبها مبتدئون في فك الحرف الأول، تلاميذ مدارس النفاق والتملق للواقف.* ينشر بالتزامن مع "الشروق" المصرية