سُجِّل فيديو لبشار الأسد في مارس 2018 وهو يسوق سيارته في شوارع الغوطة الشرقية التي تكسوها الحجارة، في ضواحي دمشق، وكانت قوات الأسد، آنذاك، أي بعد مرور سبع سنوات على بداية الحرب الأهلية في سورية، تتقدم على المجموعات الثائرة التي كانت محاصرة لمدة نصف عقد، وكان يبدو واضحا أن المشاهد في الفيديو، التي يظهر فيها الأسد مرتاحا، مجرد دعاية، إلا أنها تلخص أيضا السنوات المأساوية للصراع: لقد دُمِّرت سورية لكن الأسد ما زال هناك.

إن الأرقام وحدها لا يمكنها الكشف عن هول الكارثة الإنسانية، لكنها تقدم فكرة ضرورية، ففي 2011، عند بداية الحرب، بلغ سكان سورية 21 مليون نسمة، وبعد مرور ثماني سنوات تقريبا، لقي نصف مليون منهم حتفهم من جراء العنف (الذي كانت تمارسه القوات الموالية للأسد)، وسجل أكثر من 5.5 ملايين كلاجئين، ونزح أكثر من ستة ملايين شخص داخل سورية، ويعكس هذا الرقم فشل "مجتمع دولي"، أثبت أنه ليس اسما على مُسَمَّى، في القضية السورية وفي العديد من القضايا.

Ad

وعرقلت الانقسامات العميقة داخل مجلس الأمن للأمم المتحدة أي رد مشترك على الأزمة السورية، وإلى حد كبير، نتجت هذه الانقسامات عن التدخل العسكري في ليبيا، الذي حصل على تصويت مجلس الأمن- مع امتناع روسيا والصين عن ذلك- وتزامن ذلك مع بدء أعمال العنف في سورية، وتجاوز التدخل في ليبيا مهمته الإنسانية ليركز على إزاحة قائد البلاد، معمر القذافي، الذي قُتل بطريقة بشعة بعيد إلقاء المتمردين القبض عليه.

وخلق هذا الحادث شكوكا أكثر لدى روسيا والصين، بشأن أي تدخل عسكري باسم "مسؤولية الحماية"، وهو مذهب استُحضر ردا على تجاوزات القذافي، كما أن الفيتوهات في مجلس الأمن تتزايد، مع رفض روسيا لِـ12 قرارا بشأن سورية. ومنعت الصين، التي استعانت بقوة الفيتو في مجلس الأمن في 11 مناسبة فقط، ستة قرارات أيضا، وحالت إحدى الفيتوهات المشتركة بين الصين وروسيا دون الإشارة إلى القضية السورية في المحكمة الجنائية الدولية، خلافا لقرار سابق متفق عليه بالإجماع، الذي وافق على الإشارة إلى القضية الليبية.

ونظرا لشلل تعددية الأطراف، وُجِّه مسار الحرب في سورية ليناسب المصالح الجيوسياسية للقوى الدولية الكبرى. وانحصرت المبادرات الإنسانية في القرارات الصغرى وغير المثمرة، وفي اتفاقات خاصة مثل تلك التي وقَّعتها الولايات المتحدة الأميركية وروسيا بشأن تدمير الأسلحة الكيماوية للنظام السوري، والقصف المشكوك فيه لمعاقبة الخرق الفظيع لهذه الاتفاقية. والاتفاق الوحيد الذي أثبت أنه قوي إلى حد ما- ومثمر- أفضى إلى خوض حرب ضد الدولة الإسلامية، وخلفت هذه الحرب دمارا شاملا في التنظيم، رغم أنه لم يهزم بعد.

ونظرا لهذه الصعوبات، كان واضحا أن الدبلوماسية في سورية لم تكن أبدا لتتقدم بسهولة، وفي الواقع كان تبادل الاتهامات المستمر بين القوى الكبرى، من بين الأسباب التي جعلت كوفي عنان يتخلى عن منصبه كمبعوث خاص للأمم المتحدة والعصبة العربية في سورية. إلا أن فشل المفاوضات لم يكن ممكنا تفاديه، وما زال كذلك، وسبب الفشل ليس العوامل السياقية فقط، بل أيضا سلسلة الأخطاء الاستراتيجية التي ارتكبها الغرب، إما عن طريق التدخل أو الامتناع.

أولا، رغم أن الولايات المتحدة الأميركية كانت ترفض التدخل مباشرة في سورية، فهي لم تُخفِ حماسها لتنحية الأسد، إذ بُعَيد بداية الحرب أعلنت إدارة أوباما بصراحة أن هدفها هو تغيير النظام (كما فعل الاتحاد الأوروبي)، ولم تأخذ الجهود الدبلوماسية لعنان بعين الاعتبار، ولاحظ أشهر مؤرخي الأحداث في سورية أن الهوس بتغيير النظام "ليس مخططا للسلم". ففي الواقع، وضعت هذه السياسة بشار الأسد في وضعية الدفاع عن النفس، وألهمت المعارضة المنكسرة بأشياء غير متوقعة، وبسبب إغفال الفرصة التي منحها مؤتمر جنيف الأول للسلم، الذي عقده عنان في عام 2012، تعرضت الجهود الدبلوماسية لنكسات متتالية.

وفي غضون ذلك، جلس الاتحاد الأوروبي مكتوف الأيدي أمام صراع يؤثر على بلد يشارك في سياسة أوروبا للجوار، ولعلك تذكر أن الحرب في سورية هي السبب وراء أزمة اللجوء الكارثية التي زعزعت أسس الاتحاد الأوروبي في عام 2015، وفوق كل هذا تسببت في معاناة إنسانية كثيرة، ورغم هذا فقد كان الاتحاد الأوروبي ودوله الأعضاء بطيئين في تدخلاتهم، مكتفين ببعض التغييرات (مثل الاتفاق مع تركيا بشأن اللاجئين) بدل حل المشكلة من جذورها.

واليوم، أصبح سوء التوجه الغربي بشأن سورية مطلقا، ويقدم الرئيس الأميركي على الخصوص، مهرجانا مخزيا برسائله الفوضوية بشأن انسحاب القوات الأميركية من الساحة، ومازالت نية الولايات المتحدة الأميركية بموازنة تأثير إيران في سورية، ونوع الضمانات التي ستقدم للأكراد، الذين ساهموا إلى حد كبير في القتال ضد تنظيم الدولة، يثيران الغموض، ويبدو واضحا أن الغرب يتعارض مع الواقع: ففي وقت يتلاشى فيه الغبار الذي أثاره تنظيم الدولة، يتبين أن سورية الناشئة ليست مختلفة، سياسيا، عن سورية قبل الحرب.

هذا لا يعني أن الأسد خرج من الحرب سالما بشكل كامل، وأنه قادر على فرض إرادته دون قيود، لكن في غياب أي بدائل ممكنة، وبالرغم من الجرائم البشعة التي ارتكبها بدعم مباشر من روسيا وإيران، سيكون له دور في مستقبل سورية القريب، ومن الواضح أن كلما استُثمر الوقت والموارد في السياسات الخاطئة، مثل تغيير النظام، أصبح من الصعب التخلي عن هذه السياسة، لكن ليس هناك خيار آخر، وينبغي على الغرب أن يدرك أوهامه والجلوس للتفاوض بجدية أكثر، وعلى جميع المستويات بشأن سورية.

* خافيير سولانا

* ممثل السياسة الخارجية وسياسة الأمن في الاتحاد الأوروبي سابقا، والأمين العام للناتو، ووزير خارجية إسبانيا، ورئيس مركز الاقتصاد العالمي والجيوسياسات، وزميل بارز في مؤسسة بروكينز وعضو في لجنة البرنامج العالمي للمنتدى الاقتصادي بشأن أوروبا.

«بروجيكت سنديكيت، 2019»

بالاتفاق مع «الجريدة»