مؤيدو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لم يملكوا مطلقاً خطة فعلية
يُصنع تاريخ بريطانيا المعاصرة السري في الزوايا المظلمة بين رجال ونساء لا أحد يأخذهم على محمل الجد سوى أنفسهم، ومن الواضح أن بريطانيا تستطيع الخروج من الاتحاد الأوروبي، شرط أن تكون مستعدة لتدفع ثمناً باهظاً. ولكن بدءاً من لجنة تحكيم مباراة نظمها معهد الشؤون الاقتصادية وعلى رأسهم نايجل لوسون وجيزيلا ستيوارت ومن ثم حملات الخروج التي قادها بوريس جونسون، ونايجل فراج، ودومينيك كامينغز، وصولاً أخيراً إلى تيريزا ماي وجيريمي كوربين، اللذين يعجزان اليوم حتى عن التحدث بصراحة، رفضوا كلهم الإقرار بهذا الحقيقة المرة.في خطوة تنبئ على ما يبدو بإخفاقهم، فاز في مباراة هذا المعهد موظف قليل الشأن في السفارة البريطانية في مانيلا يُدعى إيان مانسفيلد، إذ تجاهل هذا الأخير صعوبات الخروج من الاتحاد الأوروبي وقدم لنا حصتنا الأولى من الحلوى الخيالية، وذكر أن بريطانيا تستطيع التمتع بحرية انتقال رؤوس الأموال والسلع في السوق المشتركة، إنما عليها وقف حرية حركة اليد العاملة.وسم فوزه هذا لحظة مشؤومة، فلغاية عام 2013، حتى السياسيون اليمينيون تقبلوا فكرة أنهم لا يستطيعون الحصول على الأفضل في كل العوامل. كانت بريطانيا مرتبطة باقتصاد أوروبي متكامل، وما من حكومة تستطيع انتزاعه منه في غضون بضع سنوات، لذلك على بريطانيا أن تبقى في الاتحاد الجمركي.
لا شك أن اعتماد مقاربة مرنة يُعتبر خطوة جيدة من الناحية المنطقية، ولكن بحلول شتاء عام 2013، كانت سوق السياسات المنطقية شحيحة، فقد وصف ريتشارد نورث، مؤيد الخروج المرن، أن لوسون وزملاءه الحكّام استثنوا من لائحة الطروح المختارة تلك التي أشارت إلى أن الوسيلة الوحيدة للخروج من الاتحاد الأوروبي اتباع النموذج النرويجي. حتى تلك المرحلة، كان قد عقد اجتماعات منتظمة مع آرون بانكس، أوين باترسون، وكامينغز. "ولكن حدث بعد ذلك تطور ما لا أعلم ماهيته، فما عاد كامينغز يتواصل معي وقوطعت بالكامل".ولكن من الناحية الانتخابية، شكّل السماح للملايين بتصديق أن المستحيل ممكن.لا داعي أن تكون محققاً محترفاً لتكتشف سبب حلول هذه الظلمة، وكيف يمكن لحملة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي أن تلهم المشاعر الوطنية؟ وكيف يستطيع لوسون، وفوكس، وجونسون، وفراج، وبانكس أن يلهموا أنفسهم حتى، إذا أعلنوا أن الطريقة المنطقية الوحيدة لمغادرة الاتحاد الأوروبي تشمل مواصلة دفع المال، والقبول بحرية الانتقال، واتباع قوانين لا دور للبريطانيين في صوغها، في حين تعمل بريطانيا على رسم عملية انسحاب منظمة؟ مَن يصوّت لمسألة مماثلة؟ وما جدوى الخروج أساساً؟ من الأفضل سلوك الدرب إلى عالم الخيال والتعهد بكل شيء من دون الالتزام بأي شيء، بعد منح الجائزة لوهم سياسي، قدّم كامينغز تحذيراً واضحاً مما سيلي، فكتب في عام 2015 مقراً بأن الحملة لن تقدّم أي خطة خروج، سواء كانت قاسية أو مرنة أو بينهما، ويوضح: "نجني مكاسب كبيرة من تبديل اتجاه هذه المسألة برمتها فجأة". فخصوم الاتحاد الأوروبي "منقسمون منذ سنوات"، وفي مطلق الأحوال "سيؤدي حجم التعقيد، الذي تتضمنه مسألة الخروج، إلى أسئلة لا نهاية لها عن تفاصيل لا يمكن الإجابة عنها".لا شك أن رجلاً نبيلاً وحركة سياسية كريمة كانا سيعتبران هذه الأسباب ممتازة لإعادة النظر في المسألة، لكن هذا لا ينطبق على كامينغز ولا على حركة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، ومن الناحية الفكرية يشكل خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي فكرة فارغة، ولكن من الناحية الانتخابية يمثل السماح للملايين بتصديق أن المستحيل ممكن. ومن السهل تصوير كامينغز، وجونسون، وفراج في دور الشرير، ومن المؤكد أننا إذا تحطمنا ولم ننجح في التوصل إلى أي صفقة، فسيصعب علينا تقبّل مدى الشقاء الكبير الذي جلبه قلائل على كثيرين، لكن حكومة كاميرون، وكل نائب صوّت للاستفتاء، ومَن أجروا تلك المقابلات الحماسية على شبكة "بي بي سي"، والصحافيين المتشددين في وسائل الإعلام تركوهم يفلتون من العقاب. فلم يصر أحد منهم على ضرورة إطلاع الناخبين على أي نوع من خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي يصوّتون.آمل أن نتمكن اليوم من رؤية عواقب الحجج الغامضة التي تُطرح في البقع السياسية المعزولة، إذ يواجَه مؤيدو "التصويت الشعبي" باعتراض يبدو منطقياً في الظاهر: "سبق أن أجرينا استفتاء"، وفي المقابل يصطدم داعمو ماي و"الخيار النرويجي" باعتراض أن حملة الخروج لم تخبرهم مطلقاً بأن علينا تقبّل قواعد الاتحاد الأوروبي بعد مغادرتنا، وأخيراً بالنسبة إلى داعمي خروج بريطانيا القاسي وللملايين الذين يخاطرون بمستقبلهم بتصديقهم، يشكّل التحطم والاستسلام بسأم نتيجةً منطقية لانسحاب غير منطقي من طرح بدؤوه في عام 2013.كن على ثقة، سواء للخير أو الشر، بأن الحجج التي لها أكبر تأثير فينا هي تلك التي لا تسمعها في نشرات الأخبار المسائية، ولكن في حالة خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي لا خير في كل هذا.* نيك كوهين* «الغارديان»