غالباً ما يكون قرار الامتناع عن التحرك الأصعب على الإطلاق، ولا يُعتبر هذا الخيار صائباً دوماً، ففي عام 2007 شاهدتُ مجموعة من المركبات التي كانت تعبر من إيران إلى شمال العراق، وكنت أترأس حينها «قيادة العمليات الخاصة المشتركة» في الجيش الأميركي منذ أربع سنوات وأعمل على استئصال الإرهاب الذي دمّر المنطقة، فاعتدتُ مع مرور الوقت اتخاذ قرارات صعبة، لكن في تلك الليلة من شهر يناير، كان القرار المنتظر شائكاً للغاية: هل يجب أن نهاجم موكباً فيه قاسم سليماني، قائد «فيلق القدس» في إيران، أم نمتنع عن مهاجمته؟ كان «فيلق القدس» أشبه بخليط من «وكالة الاستخبارات المركزية» و»قيادة العمليات الخاصة المشتركة» في الولايات المتحدة.

كان التخلص من سليماني مبرراً، ففي تلك الفترة راحت القنابل الإيرانية المزروعة على جانب الطرقات تحصد حياة الجنود الأميركيين في أنحاء العراق، علماً أن تلك القنابل صُنِعت وتوزعت بأمرٍ منه، لكن لتجنب الاشتباكات والخلافات السياسية التي ستترتب عنها، قررتُ أن نراقب الموكب بدل مهاجمته فوراً، ومع وصول الموكب إلى أربيل، كان سليماني قد تسلل وتوارى في الظلمة.

Ad

اليوم يتابع سليماني نشاطاته بعيداً عن الأضواء، لقد تحوّل من قائد عسكري إلى عقل مدبّر خفيّ يتّكل على ذكائه الضمني وقوة إرادته لتعزيز نفوذ إيران الدولي، لطالما حصد الإشادة من حلفائه والشجب من منتقديه نتيجة عبقريته وفاعليته وتمسّكه ببلده، لكن يتفق الجميع على أن اتزان هذا القائد ساعده في توجيه السياسة الخارجية الإيرانية طوال عقود، ولا يمكن أن ينكر أحد النجاحات التي حققها في ساحات المعارك. يُعتبر سليماني أقوى وأبرز لاعب في الشرق الأوسط اليوم، فقد ذكر مسؤولون في مجال الدفاع الأميركي أن سليماني يدير وحده الحرب الأهلية السورية (عبر عملاء محليين تابعين لإيران).

تبدو المكانة التي حققها سليماني المعروف ببراعته في الكلام صادمة نظراً إلى أصوله، فقد وُلِد في أوساط فقيرة في جبال شرق إيران وتميّز بعناده منذ عمر مبكر، وحين عجز والده عن دفع دينه، بدأ سليماني الذي كان يبلغ 13 عاماً يعمل كي يدفع الدين بنفسه، كان يمضي أوقات فراغه وهو يرفع الأثقال ويسمع العظات التي يلقيها أحد أتباع آية الله علي خامنئي، المرشد الأعلى الراهن في إيران.

عشق سليماني الثورة الإيرانية في شبابه، وفي عام 1979، حين كان يبلغ 22 عاماً، بدأ يحرز التقدم في أوساط الجيش الإيراني، ويُقال إنه تلقى تدريباً تكتيكياً اقتصر على ستة أسابيع قبل أن يشارك في القتال للمرة الأولى في محافظة أذربيجان الغربية في إيران. كان لا يزال صغيراً خلال الحرب الإيرانية العراقية التي اندلعت في السنة اللاحقة، لكنه خرج من الصراع الدموي بطلاً بعد المهام التي قادها على حدود العراق، والأهم من ذلك هو أنه تحوّل إلى قائد قوي وواثق من نفسه.

لم يعد سليماني مجرّد جندي عادي، بل أصبح خبيراً استراتيجياً قادراً على احتساب المخاطر ووضع الخطط العملية. لكنّ أهم إنجازاته على الإطلاق تتعلق بنجاحه في إقامة علاقات دائمة لترسيخ مكانة إيران في المنطقة، لم يحقق أي شخص آخر هذا المستوى من النجاح في حشد الحلفاء الشيعة وتقويتهم في المشرق العربي، وأدى دفاعه المستميت عن الرئيس السوري بشار الأسد إلى كبح أي تقدم لتنظيم «الدولة الإسلامية» وجماعات متمردة أخرى لضمان بقاء الأسد في السلطة وحماية تحالفه المستمر مع إيران، وتحت قيادة سليماني، تمكن «فيلق القدس» من توسيع قدراته بشكل ملحوظ. لقد سمحت نزعته البراغماتية الحذقة بتحويل تلك الوحدة إلى منظمة نافذة في المجالات الاستخبارية والمالية والسياسية وقد امتد نفوذها إلى ما وراء الحدود الإيرانية.

لا يمكن تحليل نجاح سليماني من دون وضعه في سياق جيوسياسي أوسع، إنه قائد إيراني استثنائي طبعاً، لكن من الواضح أنه كان نتاج الظروف التي اجتاحت بلده غداة ثورة عام 1979، ويبدو تقييمه الشامل للمصالح والحقوق الإيرانية موازياً لتقييم أهم النخب الإيرانية. كانت مقاومة إيران لتورط الولايات المتحدة في الشرق الأوسط نتيجة مباشرة للتورط الأميركي في الحرب الإيرانية العراقية، وقد طوّر سليماني رؤيته خلال هذه الفترة. يتحرك سليماني في المقام الأول بدافعٍ من النزعة القومية الفائقة التي تشكّل نبضاً أساسياً بالنسبة إلى المواطنين والقادة في إيران.

تنجم إنجازات سليماني في معظمها عن المقاربة التي يطبّقها بلده في شؤون السياسة الخارجية منذ فترة طويلة، ففي حين تبدو ردود الولايات المتحدة على مختلف الشؤون الدولية متفاوتة عموماً، تحرص إيران بشكلٍ مدهش على التمسك بأهدافها وتحركاتها.

يتعلق عامل مهم آخر بتوسّع دوره كقائد لـ»فليق القدس»، علماً أنه استلم هذه الوحدة في عام 1998. لقد كان سليماني نتاج بيئة سياسية معقدة في إيران، وهو يتمتع بحرية التحرك ضمن إطار زمني غير محدود يحسده عليه عدد كبير من الخبراء العسكريين والاستخباريين الأميركيين. بما أن قوة أي قائد تكمن فعلياً في نظرة الآخرين إليه وتتوسع بحسب قدرته على اكتساب نفوذ إضافي مستقبلاً، زادت مصداقية سليماني في مختلف تحركاته لأن أحداً لم يعتبره مجرّد لاعب موقّت.

بالتالي، ينجم نجاح سليماني عن مهارته وبقائه في مناصب نافذة، ولا يمكن إيجاد قائد مماثل اليوم في الولايات المتحدة، فلا يسمح الأميركيون لأي قادة، في المجال العسكري أو قطاعات أخرى، بالبقاء في أعلى المناصب طوال عقود. إنه وضع مبرر نظراً إلى المعطيات السياسية السائدة ومختلف التجارب السابقة. لم تسمح الحكومة الفدرالية لأي موظف حكومي قديم بحصد هذا المستوى من النفوذ الضمني منذ عهد جون إدغار هوفر.

رغم غيرتي الأولية من قدرة سليماني على إتمام ما يريده سريعاً، فإنني أظن أن هذا التحفظ يشكّل نقطة قوة في النظام السياسي الأميركي، صحيح أن أي عقل مدبّر متحمّس وعمليّ وغير خاضع للرقابة يمكن استعماله كقوة إيجابية، لكن إذا استُعمِل خدمةً لمصالح أو قيم شائبة، فقد تصبح العواقب وخيمة، كما يُعتبر سليماني خطيراً على نحو استثنائي، لأن مكانته تُخوّله أن يصقل معالم الشرق الأوسط مستقبلاً.

* الجنرال ستانلي ماكريستل المتقاعد كان على رأس «قيادة العمليات الخاصة المشتركة» بين عامَي 2003 و2008، كما تولى قيادة القوات الأميركية وقوات حلف الأطلسي في أفغانستان في عامَي 2009 و2010.

ستانلي ماكريستل* – فورين بوليسي