في لحظة تاريخية بالنسبة الى دول البلقان وصلت الأزمة الدبلوماسية حول اسم الجمهورية اليوغوسلافية السابقة مقدونيا الى نهايتها، وقد صوت البرلمان اليوناني بأغلبية 153 صوتا على اتفاق جديد مع الدولة الجارة التي ستشهد تغير اسمها الى مقدونيا الشمالية (وذلك من أجل تمييزها عن الإقليم اليوناني السابق الذي كان يحمل اسم مقدونيا). ويمهد ذلك التغيير في الاسم السبيل أمام مقدونيا الشمالية للانضمام الى حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأوروبي.

وتصادف هذا التطور مع الذكرى السنوية الرابعة لأول انتصار انتخابي لحزب سيريزا الحاكم في اليونان في عام 2015، وقد انتهز رئيس الوزراء اليوناني أليكسيس تسيبراس هذه المناسبة قبل تصويت البرلمان من أجل ربط الدبلوماسية بالسياسة المحلية في بلاده. وقال يومها «نحن لسنا من سوف يبرهن التاريخ مبررات موقفنا، والتاريخ سوف يبرر موقف اليونان، وقد أدلى تسيبراس بهذا التصريح قبل أن يشن حملة على المعارضة اليونانية وزعيمها كيرياكوس ميتسوتاكيس بسبب رفضه للموقف المتعلق بتغيير الاسم المشار اليه، وأكد تسيبراس في هذا الصدد «قضيتكم الرئيسة ليست الاتفاق بل حزب سيريزا، وأنا على وجه التحديد، وتلك حقيقة مؤكدة».

Ad

ولم يكن تسيبراس على خطأ لأن المعارضة كانت غاضبة من موقفه ويرجع ذلك في المقام الأول الى قدرة تسيبراس على تخطي الكل في هذه القضية، سواء فيما يتعلق بمعالجته للمفاوضات الدولية أو تعامله مع الحزب الأصغر في الائتلاف الذي انسحب في نهاية المطاف من الحكومة قبل التصويت الحاسم، وحتى قضية مواجهة موجة الاحتجاجات في البلاد. وقد اتهمته المعارضة بالنفاق والانتهازية بسبب تلك المواقف، وفي غضون ذلك أشاد مسؤولون خارجيون بقدرة تسيبراس على شجاعته الدبلوماسية، وعلى أي حال ليس ثمة شكل في تمتع تسيبراس بالحنكة والبراعة في الميدان السياسي.

ما قبل البريكست

لكن ذلك لم يكن صحيحاً دائماً، ففي الأيام العاصفة في عام 2015 وقبل أن يقود تسيبراس حزبه الهامشي السابق الى الانتصار في الانتخابات الوطنية شرع في إعادة مفاوضات فاشلة حول العلاقات الأساسية لليونان مع الاتحاد الأوروبي، كانت سيئة الطالع حتى قضية البريكست. ونتيجة لدبلوماسية تسيبراس تعثر الاقتصاد اليوناني وأصبحت البلاد أكثر انقساماً الى أن تجاهل في نهاية المطاف نتيجة استفتاء إنقاذ عمل هو على تنظيمه وخضع الى اتفاق سبق له أن رفضه في الأصل.

بدأت عملية إعادة تأهيل تسيبراس بعد أن تمكن من تخطي جولة الانتخابات في شهر سبتمبر 2015، ومنذ ذلك الوقت تخلى بشكل أساسي عن توجهاته الراديكالية بشكل تدريجي، وركز بدلاً من ذلك على التودد الى الجماهير الدولية مع التمسك بقاعدته الانتخابية في اليونان، وأصبح هذا السياسي اليساري الشخصية الأقرب الى الخط الأميركي والأوروبي منذ عهد كوستاس سيميتيس في تسعينيات القرن الماضي، وتحول تسيبراس بعد ذلك من سياسي معارض للتقشف الى منفذ لسياسة الاتحاد الأوروبي المالية والذي لم تعرفه اليونان منذ اندلاع الأزمة المالية العالمية في عام 2008.

تغير الصورة السياسية

ومن خلال الجمع بين المواقف المتعلقة بقضية مقدونيا، وهو هدف السياسة الخارجية لمختلف الحكومات اليونانية منذ عام 1994، عزز سمعته وصورته في الخارج، وأشادت وسائل الإعلام الألمانية المحافظة به بعد أن كانت تهاجمه في السابق، وقالت صحيفة دي فيلت في تعليق خلال الأيام القليلة الماضية «تسيبراس وحده الذي يملك القدرة على تحدي فراغ القيادة للغرب».

ولكن لدى نقاده في الداخل اليوناني وجهة نظر أخرى: وبالنسبة إلى حزب شيوعي يوناني هو يمثل دمية في يد حلف شمال الأطلسي، كما أنه يعتبر خائناً في نظر الوطنيين في بلاده، واللافت أن الكثير من الحكومات المتعاقبة انهارت تحت ثقل التخفيضات والإصلاحات التي دعا اليها حزب تسيبراس، غير أنه تمكن من التماسك وإتمام فترته الأولى في الحكم، والتي استمرت أكثر من عقد من الزمن، ولكن تلك الحصيلة جاءت بعد دفع ثمن باهظ من شعبيته التي تتخلف عن منافسه كيرياكوس متسوتاكيس.

وكانت معالجة الوضع على المستوى الاستراتيجي إيجابية بالنسبة الى الحكومة اليونانية لأنها بدأت تشعر بوجود فرصة لإنهاء هذه القضية مرة واحدة والى الأبد، بحسب ثانوس دوكوس وهو المدير العام للمؤسسة اليونانية للسياسة الأوروبية والخارجية، ولكن النجاح في السياسة الدولية يتطلب على أي حال مناورة محلية بارعة ويرجع معظم نجاح تسيبراس في الوقت الراهن الى قسوته في التعامل مع الأحزاب الأخرى.

خطأ المعارضة اليونانية

تأملت المعارضة اليونانية أن يمثل اتفاق مقدونيا نهاية لتسيبراس، ولكن الذي حدث بدلاً من ذلك أن المعارضة نفسها أصبحت مقسمة، وفي حين خرج شريك ائتلاف سيريزا من الحكومة كما سبق له أن هدد منذ عدة أشهر فإن أعضاء الحزب في البرلمان استمروا في ولائهم لتسيبراس، ثم إن حركة المعارضة الاشتراكية التي كانت تأمل أن يفضي تبنيها لنبرة وطنية الى مساعدتها على نيل بعض الدعم الذي يحظى تسيبراس به، إذ وجدت نفسها منقسمة حول هذه القضية مع وقوف بعض أعضائها في البرلمان الى جانب الحكومة، وقد حدث الشيء نفسه مع حزب الوسط بوتامي الذي انشق أعضاء البرلمان فيه وانضموا الى اليسار واليمين.

بددت هذه الخطوات الأخيرة الأحزاب الصغيرة، وسمحت لسيريزا وحزب المعارضة الرئيسي– يمين الوسط الذي يعرف باسم الديمقراطية الجديدة– باستيعاب مؤيدين، وخصوصاً بالنسبة الى سيريزا بشكل لم يكن متخيلاً قبل عدة سنوات. وفي غضون ذلك تشير استطلاعات الرأي في الوقت الراهن إلى أن الانقسام بين حزبي سيريزا والديمقراطية الجديدة بدأ يضيق.

ويترك هذا كله اليونان في وضع خطير، وقد استثمر تسيبراس ومتسوتاكيس بشدة في استقطاب الروايات: حشد تسيبراس شعبية مناوئة للنخبة من أجل الفوز في الانتخابات في عام 2015 وكان متسوتاكيس يروج بصوت مرتفع للدعوة الوطنية حول قضية مقدونيا. ومن غير المؤكد ما إذا كانا سيحافظان على هذه السمعة لأن تسيبراس– بعد كل شيء– ابتعد كثيراً عن صورة اليساري الراديكالي التي كونها لنفسه قبل عام 2015 وقد تمكن من إقناع اليسار اليوناني بدعمه، وفيما يتعلق بمتسوتاكيس فهو قد يواجه شكوكاً من جانب المعتدلين في جناح الوسط الذين يعتقدون أن مواقفه الوطنية حول قضية مقدونيا دفعته الى التماهي مع مصالح روسيا وتركيا في المنطقة.

والواضح على أي حال هو أن اليونان تخطت البلقنة في سياساتها الحزبية خلال الأزمة المالية الأسوأ كما كانت الحال بعد انهيار الحكومة العسكرية في عام 1974، وقد تمكن تسيبراس من تحويل حزب سيريزا الى حزب يسار وسط ثابت في اليونان.

تأثير التقشف

ولكن تأثيرات التقشف لا تزال قائمة في أوساط المواطن اليوناني، كما أن معدلات البطالة وعلى الرغم من هبوطها لا تزال نحو 18 في المئة، وتعتبر الأجور المتدنية من الأمور العادية وسيعتمد مسار اليونان في العقد المقبل على قدرة تسيبراس على إقناع الشعب اليوناني بقدرته على تغيير هذه الحقائق المرعبة بعد انتهاء خطط التقشف التي فرضها الاتحاد الأوروبي. والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا الصدد هو: هل يتمكن من النجاح في مسعاه؟ ربما ولكن دبلوماسيته الناجحة في قضية مقدونيا قد لا تساعده على تحقيق هدفه في نهاية المطاف.

يانيس بابولياس– "فورين بوليسي"