يحتاج الجميع إلى أبطال، حتى بلوتوقراط دافوس، لكن "النخبة العالمية" تواجه اليوم شحاً في الحماسة والأفكار.في أروقة المنتدى الاقتصادي العالمي قبل أيام اختصر الخبير الاقتصادي في هارفارد كينيث روغوف هذه المسألة قائلاً: "كان لقاء دافوس هذا الأكثر مللاً الذي أذكره، إذ يضم المؤتمر عادةً دولة نجمة أو صناعة نجمة يتكلم الجميع عنها، لكننا لم نشهد ذلك هذه السنة".
لا تقتصر تداعيات غياب الحماسة هذه على عالم مؤتمر دافوس الذي يمكن السخرية منه بسهولة، فطوال السنوات الثلاثين الماضية شكّل المنتدى المكان الأفضل لمراقبة الأفكار والموجات التي تثير حماسة الأغنياء والأثرياء، كذلك شكّل مكاناً يُصاغ فيه إجماع النخب ويُروّج له. تمكنّا السنة الماضية في تحديد نجمين بسهولة في دافوس، فاحتلت مرتبة التكنولوجيا الأكثر بروزاً "سلسلة الكتل" (blockchain) والسياسي الأكثر بروزاً الرئيس الفرنسي ماكرون، ولكن منذ ذلك الحين تراجعت شعبية ماكرون في استطلاعات الرأي بسرعة ضاهت سرعة تدهور سعر بيتكوين، واضطر الرئيس الفرنسي هذه السنة إلى البقاء في وطنه بغية معالجة الخلافات المحلية.يستطيع ماكرون وبيتكوين اليوم الانضمام إلى مجموعة متنامية من نجوم دافوس المنطفئة، وتشمل هذه المجموعة دولاً، وسياسيين، وصناعات ساد الاعتقاد سابقاً أنها تمثل المستقبل، إلا أن شهرتها تقهقرت منذ ذلك الحين.كانت معظم الدول النجوم في المنتديات السابقة اقتصادات ناشئة سريعة النمو اعتُبرت عموماً من الدول الديمقراطية أو "المتجهة نحو الديمقراطية" على الأقل. واعتادت البرازيل استيفاء كل هذه الشروط، ففي عام 2010 منح المنتدى الاقتصادي العالمي "جائزة رجل الدولة العالمي" لرئيس البرازيل آنذاك لويس إيناسيو لولا دا سيلفا الذي تحدث في عدد من المنتديات السابقة، تخال أنه كان مصمَّماً تقريباً لإمتاع دافوس، فقد كان راديكالياً سابقاً تبنى الرأسمالية والعولمة من دون أن يفقد مصداقيته كمصلح اجتماعي، وكان اقتصاد بلده ينمو بسرعة.لكن البرازيل في عام 2019 كانت قد واجهت لتواها ركوداً عميقاً وفضيحة فساد، وها هو لولا يقبع في السجن، ويمثلُ البرازيلَ اليوم جايير بولسونارو، رئيس يشتهر بإهانته مثليي الجنس ويمدح المعذِّبين، وبصفته من أنصار الإصلاحات الاقتصادية الليبرالية، حظي بولسونارو بفرصة ليبدل صورته لحضور دافوس، لكن مشاركته في منتدى هذه السنة جاءت وجيزةً ومصطنعةً.سار نجوم دافوس السابقون أيضاً على الدرب ذاته، فعلى سبيل المثال اعتُبرت تركيا ذات مرة دولة نجمة، فنودي برئيسها أردوغان على اعتبار أنه نموذج القائد المسلم المعتدل، وأنه يرأس دولة ديمقراطية ورأسمالية على حد سواء. لكن أردوغان انسحب بغضب من دافوس عام 2009 بعد خلاف على المسرح بشأن إسرائيل ولم يعد مطلقاً، ويترنح بلده على حافة أزمة دين. بالإضافة إلى ذلك، شكّل التحول الظاهري للنخب الروسية من أعضاء مجموعة لا وجه لها إلى رأسماليين صلبين خام معجزة أخرى من معجزات المنتدى الاقتصادي العالمي، ولكن منذ غزوها القرم في عام 2014، وُضعت روسيا في خانة المعاقَبين.خيبت بريطانيا أيضاً آمال دافوس بتصويتها للخروج من الاتحاد الأوروبي، واكتفت بإدخال الوفود في حالة من الحيرة والذهول في مؤتمر هذه السنة بتعليقها لافتات كبيرة على فندق بلفيدير كُتب عليها "التجارة الحرة ممتازة". لا شك أن دونالد "رجل الرسوم الجمركية" ترامب ليس رجلاً قد يؤيد هذا الشعار الملائم لمنتدى الاقتصاد العالمي، ولم يشارك الرئيس الأميركي في المنتدى هذه السنة لأنه منشغل بمعالجة مسألة تعطيل الحكومة.أما ادعاء الصين أنها "الدولة النجمة" فمتقلقل بسبب تباطؤ النمو وفاقم العداوة مع الولايات المتحدة، والسياسات التي تزداد استبداداً في الوطن، فلا يحظى شي جين بينغ بقبول كبير في دافوس، ونصل بذلك إلى الهند، حيث جاء ظهور ناريندرا مودي، رئيس وزراء الهند، مميزاً في المنتدى الاقتصادي العالمي السنة الماضية، ولكن منذ ذلك الحين، بلغت دافوس أخبارا عن أن الإصلاحات الاقتصادية تباطأت في الهند وأن استقلال المصرف المركزي مهدد، إذاً، حتى الهند بحد ذاتها تبدو أقل تميزاً هذه السنة.نتيجة لذلك انتقل البحث هذه السنة عن نجوم بين الدول والسياسيين إلى الصف الثاني مع حصول النمسا وإثيوبيا على اهتمام إيجابي، ويبدو سيباستيان كورتس، مستشار النمسا البالغ من العمر 32 سنة، مؤدياً سلساً يسعى إلى تطبيق إصلاحات اقتصادية ليبرالية، لذلك ذكر أحد الخبراء الألمان بحماسة: "أود لو يصبح مستشار ألمانيا، إلا أننا واجهنا تجارب سيئة للأسف مع النمساويين في السابق". أما رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، فقد بدا أشبه ببطل من أبطال دافوس في مطلع تسعينيات القرن الماضي مع خطابه عن تحرير السجناء السياسيين، وعقد معاهدات السلام مع الجيران، والتكامل الاقتصادي الإقليمي، و(بالتأكيد) الإصلاح الاقتصادي الليبرالي، لكن التغيير الإيجابي في إثيوبيا ليس كافياً لتبديل الجو العام السائد. اعتاد مشاركو دافوس في الماضي التطلع إلى الصناعة بحثاً عن الإلهام عندما كان السياسيون يشكلون حالة ميؤساً منها، لكن مجموعة التكنولوجيا بدت اليوم غارقة في الجدال، في حين يتحول المستقبل الذي تمثله إلى وهم تدريجياً.تشكّل دافوس مكاناً تعيد فيه الصناعات التقليدية تصنيف نفسها كصناعات مستقبلية، وتتحدث شركات النفط عن الطاقة المتجددة، في حين تتفاخر شركات السيارات بمركباتها الكهربائية. ولكن هذه السنة، راحت شركات النفط تترنح من جراء تراجع استثمارات المساهمين، ولا تزال شركات السيارات الألمانية تعاني في أعقاب فضائح الديزل. لذلك لم تحمل صناعات مماثلة أي بارقة أمل.بدا كما لو أن العالم خيب أمل دافوس، أو ربما دافوس هي مَن خيبت أمل العالم مرة أخرى.* غيديون راشمان* «فاينانشال تايمز»
مقالات
ما من أبطال للنخبة العالمية
03-02-2019