الرصاص في مهمتين
يبدو أن قدر الرصاص أن يكون سلاحين متناقضين، الأول يسعى للإصلاح، يستخدمه المفكر والكاتب للنهوض بوعي الأمة، وانتقاد ما يراه شاذا، أما السلاح الثاني فهو هذه الرصاصة التي يحملها المتعصب الإرهابي للوقوف في وجه هذا الكاتب المسالم. يحمل الإرهابي رصاصة في مواجهة بغيضة وغير عادلة بين الفكر وغيابه. في لحظة المواجهة يجد المسلح هذا الكاتب هدفا سهلا وناعما لا يمكن لقلمه الآن أن ينقذه. في المقابل، يعرف صاحب القلم، الذي غالبا يعلم وعورة الطريق التي اتخذها وسارها وسط كمية من الجهل والتعصب، أن المواجهة لن تكون لصالحه، وليس بإمكان رصاصه الذي يكتب به أن يواجه رصاص الإرهابي. ويعرف أيضا أن العقل والفكر الذي يحمله ليس له أن ينتصر في تلك اللحظة على الخواء الذي يحمله عقل هذا المسلح الموجه بكثير من الحقد والإيمان المزيف.في العالم العربي الغامض، الذي يسيطر عليه الخواء الفكري، يتراجع الفكر النيّر أمام هذا الجهل الذي يرفض أن يتقبل الرأي الآخر، يرفض أن يرد على الكلمة بالكلمة. الحل الوحيد الذي يراه هو إسكات الصوت المناهض له، فالرصاص ليس وسيلة لقتل الصوت الخارج عن خطه فحسب، وإنما الطريق الوحيد لإسكات بقية الأصوات. لكن الحقيقة أن هذا الإرهاب الفكري فشل في كبت الرأي الآخر، فلم ينجح اغتيال فرج فودة من قبل شخص لم يقرأ له، وكل ما يعرفه عنه هو الصورة الشخصية التي أطلعه أمراء الفكر عليها. لم ينجح الإرهاب في كبت أصوات الكتاب والمفكرين بعد محاولة اغتيال نجيب محفوظ وهو طاعن في السن، وأيضا لم يكن الإرهابي يعرف من هو نجيب محفوظ، وكل ما يعرفه هو ما تلقاه من أمير جماعته.
قبل أيام تم اغتيال الروائي العراقي علاء مشذوب أمام منزله بثلاث عشرة رصاصة، ويبدو أن هذا العدد من الرصاص يحمل دلالة كتبها الروائي في مقال له. لم يكن الوضع في العراق قبل سقوط الطاغية يشير إلى حرية فكرية أو ثقافية مناهضة لما يريده الحزب الواحد، وكان المفكر والروائي في العراق يعرف مصيره إذا تجاوز هذه الخطوط الحمراء. اعتقد البعض أن الوضع قد تغير بعد عام 2003 ، وأن الحرية قد أتت للعراقيين ليعبروا ويقولوا ما يريدون دون خوف أو جزع من سلطة النظام الشمولي. لكن الحال ليست كذلك، فما كتبه الروائي علاء مشذوب عن العلاقة بين إيران والعراق، وتطرقه إلى الإمام الخميني الذي أقام في العراق ثلاثة عشر عاما، كان محفزا للمسلح الذي أطلق عليه ثلاث عشرة رصاصة. سيستمر القلم الحر يكتب ما يراه، وسيستمر الرصاص يقتل صاحب هذا القلم. لن يقف الصراع ونحن نعيش فترة جاهلية صعبة. هناك طرفان نقيضان تماما، يؤمن الأول بحرية الفكر والتعبير، ويؤمن الآخر بالقتل والتدمير. لن يتوقف القلم عن الكتابة ولن يقف الرصاص عن القتل. على الأقلام العراقية الحرة أن تدرك أن الصمت هو عودة للوراء، وهو انتصار للمسدس على القلم.