قبل أن تكشف الأزمة المالية العالمية عام 2008 عن محدودية نموذج النمو الصيني الموجه نحو التصدير، أكد قادة البلاد الحاجة إلى تحقيق نمو اقتصادي جيد، ففي مارس 2007، زعم رئيس مجلس الدولة ون جيا باو آنذاك بأن النمو الاقتصادي الصيني الذي يبدو مذهلا أصبح "غير مستقر وغير متوازن وغير منسق وغير مستدام". بعد أكثر من عقد من الزمان، هل ستتمكن الصين من إثبات عكس ذلك؟

منذ عام 2013، حققت الصين تقدما ملحوظا من خلال خطة الإصلاح الشاملة التي وضعها الرئيس شي جين بينغ وفريقه، والتي حملت الصين على طريق النمو الشامل الذي يحركه الابتكار، ومنذ ذلك الحين، اتخذت الصين خطوات حاسمة، والتي تتمثل بالقضاء على الفساد وتخفيف حدة الفقر وتنفيذ إصلاحات جانب العرض.

Ad

لكن الصين لم تتمكن بعد من تحقيق هدف السلطات بأن تصبح السوق قوة "حاسمة" في تخصيص الموارد، وقد أعاقت الصدمات الداخلية والخارجية المتعددة تنفيذ خطة شي الإصلاحية، وذلك من خلال تصاعد التوترات التجارية مع الولايات المتحدة في الأشهر الأخيرة.

عندما تصبح البيئة الخارجية أكثر تدهورا وعدائية، تواجه الصين انكماشا دوريا في البلاد، ففي عام 2018 انخفض معدل نمو الناتج المحلي الإجمالي في الصين إلى 6.6 في المئة، وهو أدنى مستوى له منذ عام 2010، على الرغم من أن معدلات البطالة والاستهلاك ظلت مستقرة حتى الآن. علاوة على ذلك، في حين ارتفع حجم التجارة بنسبة 9.7 في المئة في السنة، إلا أنه عرف انخفاضا بنسبة 4.8 في المئة في ديسمبر، مما يعكس حالة عدم اليقين التي خلقتها التوترات التجارية مع الولايات المتحدة.

رغم تحول اتجاه السوق إلى النزول، انخفض نمو الاستثمار في رأس المال الثابت في البنية التحتية والإسكان إلى 5.9 في المئة فقط، علاوة على ذلك فقد انخفض مؤشر شنغهاي المركب بنحو 25 في المئة- وهو أدنى مستوى له في 10 سنوات- كما انخفضت القيمة السوقية للشركات الصينية المدرجة في بورصتي شانغهاي وشنتشن بما يصل إلى 2.4 مليار دولار.

لقد ساهمت هذه التحديات- وخصوصا الضغط الحمائي من جانب الولايات المتحدة- في إعطاء صناع السياسة الصينيين دفعة إضافية لمعالجة التحديات الهيكلية والعمل على تمهيد الأرضية للشركات الخاصة والأجنبية. على سبيل المثال، أطلقت وزارة المالية سلسلة من برامج خفض الضرائب، تهدف إلى تخفيف العبء على الأسر ذات الدخل المنخفض، وقطاع الخدمات، والمؤسسات الصغرى.

علاوة على ذلك، تم تبسيط اللوائح المالية والتجارية والصناعية التي كانت في السابق تعوق الأعمال الخاصة والابتكار. على الصعيد النقدي، خفض بنك الشعب الصيني نسبة الاحتياطي الإلزامي للبنوك أربع مرات خلال العام الماضي، للحفاظ على السيولة المناسبة.

كجزء من مفاوضاتها مع الولايات المتحدة، تعمل الصين أيضا على فتح أسواقها بشكل أكبر، لكن هناك حدود لمدى قدرة الصين على تنفيذ مطالب الولايات المتحدة، وكما هي الحال، فقد قررت الصين التخلص من فائضها التجاري مع بقية دول العالم، فإذا قامت بخفض فائضها التجاري مع الولايات المتحدة، كما طالب الرئيس دونالد ترامب، فقد ينتهي بها الأمر بخفض الواردات من الدول الأخرى للحفاظ على توازن إجمالي تجارتها، الأمر الذي سيساهم في تعطيل التجارة العالمية.

هناك حاجز آخر يعوق مساعي الصين لتحقيق نمو اقتصادي جيد وهو التوقيت، ففي حين أن تحقيق التنمية المستدامة، ورفع مستويات المعيشة، والقضاء على الاختلالات، سيحقق فوائد هائلة على المدى الطويل، فإن السياسات اللازمة لتحقيق ذلك قد تضعف النمو على المدى القصير.

ولمواجهة هذا التأثير، تأمل الصين أن يتمكن القطاع الخاص من تحقيق اختراقات مبتكرة تعزز الإنتاجية في المستقبل القريب، ولتحقيق هذه الغاية، عقد شي لقاء مع العديد من قادة الشركات الخاصة لطمأنتهم بأنهم يمكنهم الاعتماد على الحكومة لدعم المنافسة العادلة والأنشطة المبتكرة.

ولكن إذا أراد القطاع الخاص تحقيق إمكاناته، فإنه يحتاج إلى التمويل، ولتحقيق هذه الغاية، يجب على الصين أن تعمق أسواق رأس المال المحلية، من أجل دعم الاستثمارات الطويلة الأجل المتنوعة والفعالة من قبل الجهات الفاعلة المؤسسية، مثل صناديق الضمان الاجتماعي والمعاشات التقاعدية، التي يمكنها تحويل المدخرات من الديون إلى الأسهم الطويلة الأجل.

وفي الوقت نفسه، يحتاج القطاع الخاص إلى مؤسسات أقوى لتعزيز المنافسة العادلة، فوفقا للخبير الاقتصادي الراحل هارولد ديمسيتز، فإن المؤسسات التي تحدد حقوق الملكية الخاصة وتحميها لن تظهر إلا عندما تتجاوز فوائد هذا النظام تكاليف إنشائه، والصين في خضم هذا التحول.

يحتاج القطاع الخاص أيضا إلى حوافز أكبر لتحمل المخاطر، ولذلك، يعد توضيح التوازن بين الحكومة المحلية والحكومة المركزية أمرا حاسما، ففي حين أن الحرية المفرطة للحكومات المحلية يمكن أن تؤدي إلى عدم الاستقرار، إلا أن التحكم المفرط يمكن أن يعوق التجارب والمنافسة على المستوى المحلي التي قادت النمو الصيني لفترة طويلة.

وفي الواقع، على الرغم من أن الحكومة المركزية توفر البنية التحتية الأساسية وتنسيق السياسات، يمكن للحكومات المحلية (بما في ذلك البلديات) تحديد وتنفيذ مشاريع البنية التحتية العامة "الأخيرة" التي تخلق إمكانات السوق للنمو الجديد. إن مثل هذه المشاريع- والخدمات العامة التي تدعمها- تعتبر حاسمة في إنشاء نظام بيئي لجذب رجال الأعمال والمبتكرين.

ولتمكين الحكومات المحلية من القيام بهذا الدور الفعال، هناك حاجة إلى آليات تمويل مبتكرة لتخفيض ديونها وزيادة إنتاجية رأس المال بشكل عام، فعلى سبيل المثال، يمكن تأجير الأصول العامة للشركات الخاصة القادرة على توفير إدارة أكثر كفاءة.

وهذا يشير إلى حاجة الصين لتفكيك الحواجز البيروقراطية، وكما أشار ديمسيتز، فإن اتخاذ القرار بعدم خفض الحواجز أمام دخول السوق يؤدي إلى تقويض المنافسة أكثر من تمركز السوق المفرط، فعلى الرغم من أن عمالقة التكنولوجيا الصينية (تينسنت وعلي بابا) يتمتعون بقوة احتكارية طبيعية في مجالاتهم، فإن الحواجز المنخفضة نسبيا أمام دخول السوق مكنتهم من تقديم خدمات منخفضة التكلفة لأعداد كبيرة من المستهلكين والشركات.

لم تحقق الصين نموا جيدا حتى الآن، ولكن إذا استمر قادتها في تعزيز حقوق الملكية والعمل على تحسين الثقة في السوق وتعزيز المنافسة العادلة، فإن تحقيق هذا الهدف لن يكون بعيد المنال.

* أندرو شنغ وشياو غنغ

* أندرو شينغ زميل متميز في معهد آسيا العالمي في جامعة هونغ كونغ وعضو في المجلس الاستشاري لبرنامج الأمم المتحدة للبيئة حول التمويل المستدام. وشياو غنغ رئيس مؤسسة هونغ كونغ للتمويل الدولي، وأستاذ بكلية الأعمال بجامعة بكين وكلية الأعمال والاقتصاد في جامعة هونغ كونغ.

«بروجيكت سنديكيت، 2019» بالاتفاق مع «الجريدة»