ترامب يتخلى عن التعاون الأمني
ابتعدت إدارة ترامب عن الشراكات الثنائية، فلم توقّع سوى خمسة اتفاقات جديدة عام 2017 وثلاثة في عام 2018، علماً أن هذا الرقم الأدنى منذ انطلاق موجة التعاون الأمنية في أعقاب اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر قبل نحو عقدين.
نعرف جيداً كره ترامب للتعاون الدولي، فقد ندد طوال عقود "باستغلال" حلفائنا الولايات المتحدة، ويشير مقال نُشر أخيراً في صحيفة "نيويورك تايمز" إلى أنه عبّر مراراً عن رغبته في سحب الولايات المتحدة من حلف شمال الأطلسي (الناتو)، لكن التعاون الدولي لا يقتصر على الائتلافات القائمة على المعاهدات والمنظمات المتعددة الأطراف. توقع الدول كل سنة عشرات الاتفاقات الأمنية التي تشمل شتى المسائل من الأسلحة البيولوجية إلى الأبحاث في مجال الدفاع، وكانت الولايات المتحدة في الماضي اللاعب الأبرز، إلا أنها لم تعد كذلك اليوم، فخلال عهد ترامب، تراجع فيض الشراكات الأمنية الجديدة وأصبحت شحيحاً، ولا شك أن هذه أخبار سيئة بالنسبة إلى الأمن الأميركي.تشكّل الائتلافات العسكرية، مثل الناتو، الأداة الفصلى للتعاون الأمني، غير أنها تعجز عن معالجة كل المخاوف، وتوقّع الحكومات أيضاً اتفاقات محددة تتناول مجموعة واسعة من المسائل، والتدريبات والتمارين العسكرية، وحفظ السلام، ومكافحة الإرهاب، والتبادلات الشخصية، والسياسة الدفاعية، وتطوير الأسلحة وبيعها. فينتج عن كل ذلك شبكة واسعة جداً من البروتوكولات، والمذكرات، والمعاهدات يُشار إليها غالباً بـ"الاتفاقات الأمنية الثنائية". يكشف بحثي في هذا المجال أن الحكومات تستعمل هذه الاتفاقات لتبني إطار عمل قانوني يتيح للجنود، والدبلوماسيين، والبيروقراطيين، والجواسيس من دول عدة العمل معا كل يوم. وهدف هذه الاتفاقات معالجة المخاطر العصرية: والإرهاب، والاعتداءات عبر الإنترنت، وحركات الثوار المتعددة الجنسيات، والأسلحة البيولوجية والكيماوية، والقرصنة، والاتجار بمواد خطيرة.الاتفاقات الأمنية مهمة لأن معظم الدول تفتقر إلى التحالفات التقليدية، فتساهم الشراكات الأضيق في سد الفجوات. وتوقّع الحكومات 150 إلى 200 منها كل سنة، ويكون الكثير من هذه الشراكات طموحاً جداً ويضم كامل نطاق العلاقات العسكرية بين البلدين اللذين وقعاها. على سبيل المثال، وقعت الولايات المتحدة وكوريا الجنوبية اتفاقاً ينظم تمارينهما العسكرية المشتركة، وآخر ينشئ عدداً من مشاريع البحث المشتركة بين قطاعَي الصناعة الدفاعية في كلا البلدين، وثالثاً يتناول الأمن عبر الإنترنت. تركّز اتفاقات أخرى على مخاطر محددة، إذ تشمل مئات الاتفاقات الأمنية التي وقعتها الولايات المتحدة صفقة مع إندونيسيا تعزز البروتوكولات الأمنية بشأن الممرضات البيولوجية، وصفقة أخرى مع ليتوانيا تمنع الاتجار غير المشروع بالمواد النووية، وثالثة مع أستراليا تحسّن تكنولوجيا الطوربيدات. قبل عهد ترامب، كانت الولايات المتحدة اللاعب الأبرز في مجال الاتفاقات الأمنية. على سبيل المثال، عقدت إدارة ترامب خلال سنتيها الأوليين 36 صفقة مماثلة، عمّق بعضها الروابط مع حلفاء قدماء، في حين استقطب بعضها الآخر شركاء جدداً. في عام 2010 مثلاً، وقّعت هذه الإدارة أول اتفاق دفاعي كبير للولايات المتحدة مع البرازيل خلال 30 سنة، وعزز هذا الاتفاق التمارين والتدريبات العسكرية المشتركة، والشراكات في مجالَي الأبحاث والتنمية، وبيع الأسلحة. كذلك طبّقت إدارة أوباما أكثر من 12 اتفاقاً جديداً خلال سنتها الأخيرة فحسب، منها شراكات في مجال الأبحاث مع إستونيا واليابان واتفاقات واسعة في قطاعات عدة مع لاتفيا وليتوانيا.
يحسّن تعاون مماثل الأمن القومي الأميركي، كما كتب وزير الدفاع السابق آش كارتر في مجلته عام 2016، تتيح الاتفاقات الأمنية للدول "اتخاذ خطوات منسّقة في رد فعلها تجاه الأزمات الإنسانية والكوارث الطبيعية، ومعالجة التحديات المشتركة مثل الإرهاب، وضمان أمن العامة وتمتعهم بهذا الأمن بطريقة متساوية". على سبيل المثال، مهّد اتفاق عام 2007 مع سنغافورة بشأن أبحاث الأمن الوطني الدرب أمام السماح للمفتشين بمسح الحمولات المتوجهة إلى الولايات المتحدة بحثاً عن أي مواد نووية أو مشعة. كذلك ساهم اتفاق عام 2013 مع ليبيا، الذي يجهله كثيرون، في القضاء على ما تبقى في هذا البلد من أسلحة كيماوية مخزّنة، مما حال دون وقوعها بين أيدي الإرهابيين وغيرهم من المجموعات المارقة. في المقابل، ابتعدت إدارة ترامب عن الشراكات الثنائية، فلم توقّع سوى خمسة اتفاقات جديدة عام 2017 وثلاثة في عام 2018، علماً أن هذا الرقم الأدنى منذ انطلاق موجة التعاون الأمنية في أعقاب اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر قبل نحو عقدين.صحيح أن ميول ترامب الانعزالية واضحة جيداً، إلا أننا لا نعرف بالتحديد لمَ ابتعدت إدارته عن الشراكات العسكرية. في استراتيجية الدفاع الوطني لعام 2018، دعا وزير الدفاع السابق جيمس ماتيس إلى "شراكات جديدة تقوم على مصالح مشتركة بغية تدعيم الائتلافات الإقليمية والتعاون الأمني". تشير هذه الكلمات إلى أن وزارة الدفاع على الأقل لا تزال تشدد على أهمية التعاون الأمني الدولي، لذلك لا يعكس التفسير الأرجح تغييراً متعمداً في السياسة، بل عدم اهتمام إدارة ترامب الأشمل بالدبلوماسية. بالإضافة إلى ذلك، قد تكون الحكومات الأجنبية نفسها أقل ميلاً إلى التعاون مع الولايات المتحدة. لطالما عرف العلماء السياسيون أن القادة المتهورين، حتى في الديمقراطيات، لا يشكّلون حلفاء يمكن الاعتماد عليهم، ومع تنشيط السياسات الخارجية في الصين وروسيا، إلى جانب دبلوماسية الولايات المتحدة اللامبالية، حصلت الحكومات على خيارات جديدة، ففي عام 2018 وقعت كل من الصين وروسيا اتفاقات دفاعية مع الهند والفلبين، علماً أن هذين بلدان بالغا الأهمية بالنسبة إلى مصالح الولايات المتحدة في آسيا، كذلك عززت الصين وروسيا روابطهما الأمنية مع شركاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، مثل الكويت، وقطر، والمملكة العربية السعودية. باتت إدارة ترامب متخلفة في هذا المجال، لا تستطيع دولة أن تحارب وحدها الكثير من التهديدات الأشد خطورة اليوم، مثل الإرهاب، والاعتداءات عبر الإنترنت، والأسلحة البيولوجية والكيماوية، والقرصنة، والاتجار بالمخدرات. يجب أن تتشارك الحكومات في المعلومات، وتنسق السياسات، وتنفذ تدريبات مشتركة، وتسمح إحداها للأخرى بولوج القواعد العسكرية، والتعاون بغية تطوير تكنولوجيا دفاع جديدة، ولا شك أن الإخفاق في عقد صفقات أمنية جديدة سيجعل الأميركيين معزولين. براندون كين* «فورين أفيرز»