يبدو أننا نغفل عن معلومات كثيرة بشأن مفاوضات السلام الحاصلة بين الولايات المتحدة وحركة «طالبان»، ففي المقام الأول، لسنا متأكدين من توقيع اتفاق فعلي في نهاية المطاف.

كذلك، لا نعرف ما إذا كانت حركة «طالبان» جديرة بالثقة، بمعنى أنها ستنفذ التزاماتها، وما من ضمانة على أنها ستوافق على تقاسم السلطة السياسية مع الأشخاص الذين حاربتهم في آخر 17 سنة، ولا نعرف أيضاً إذا كانت «طالبان» ستخوض مفاوضات مباشرة يوماً مع الحكومة الأفغانية التي تعتبرها دمية بيد القوى الغربية، حتى أننا لا نستطيع التأكيد على أن الرئيس الأفغاني أشرف غني سيجازف بما تبقى من مصداقيته السياسية ويتفاوض على بعض المطالب الأساسية التي تطرحها «طالبان»، مثل إعادة النظر بالدستور الأفغاني.

Ad

لكن بعد إعلان ترامب انسحاب الجنود الأميركيين من البلاد، نستطيع التأكيد على حالة الرعب التي اجتاحت عدداً من الأشخاص الذين عملوا على ملف أفغانستان خلال الإدارات السابقة، وحتى النقاد الذين كانوا يؤيدون لفترة طويلة وجود قوات أميركية لأجل غير مُسمّى في أفغانستان.

نشر ريان كروكر، السفير الأميركي في أفغانستان خلال عهد أوباما، افتتاحية في صحيفة «واشنطن بوست» وقارن فيها المحادثات الأميركية الراهنة مع حركة «طالبان» بمحادثات السلام التي جرت في باريس بين عامَي 1972 و1973 لإنهاء حرب فيتنام. كانت تلك المقارنة تهدف إلى إظهار الولايات المتحدة بصورة البلد المذلول والمهزوم الذي استسلم للمتمردين.

يقول كروكر مثلما انسحبت واشنطن من فيتنام فإن ترامب يجازف بجعل الولايات المتحدة في مكانة ضعيفة الآن. أعاد بيل كريستول الذي كان يعمل في مجلة «ويكلي ستاندرد» التي أقفلت أبوابها الآن وجينفير روبين من صحيفة «واشنطن بوست» تغريد هذه الفكرة بكل حماسة، لكن من المعروف أن كريستول وروبين كانا من مؤيّدي سياسة التدخل ويحملان سجلاً استثنائياً من المواقف الخاطئة!

تهدف هذه الجهود التي يبذلها النقاد الفاشلون إلى دفع ترامب لتغيير رأيه بشأن انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان، فقد ارتكزت مختلف الافتتاحيات الصحافية والتغريدات على المخاوف بدل الحقائق، فراحت تتوقع أسوأ الكوارث لإخافة صانعي السياسة الأميركيين وإقناعهم بضرورة التمسك بوضع المراوحة، كما أنها نشرت أجواءً من الاستياء والهلع بشأن التداعيات المريعة التي ستحصل في حال انسحبت الولايات المتحدة.

بالنسبة إلى واشنطن، سيكون الانسحاب من صراع لا يمكن الفوز به مرادفاً للخسارة، لكنّ البقاء في دوامة حرب أفغانستان اللامتناهية سيكون مؤشراً على النصر وقوة الإرادة، حتى لو أدت هذه التجربة في النهاية إلى دمار تام.

قد تكون أوساط واشنطن محقة من ناحية واحدة: سيكون الانسحاب الأميركي مؤلماً على الأرجح بالنسبة إلى عدد كبير من الأفغان، لأن حركة «طالبان» ستُحكِم قبضتها على الولايات الجنوبية لأفغانستان، حتى أنها قد تكسب القوة اللازمة للسيطرة على بعض عواصم الولايات. من المعروف أن الجيش الأفغاني هو عبارة عن قوة مُحاصَرة ومرهقة وقد تكبّد 45 ألف قتيل منذ وصول أشرف غني إلى القصر الرئاسي في سبتمبر 2014، لكنه سيُجبَر الآن على اتخاذ بعض القرارات الصعبة في ما يخص الأراضي التي يجب أن يدافع عنها وتلك التي سيتنازل عنها للمتمردين.

على صعيد آخر سيموت عدد إضافي من المدنيين الأفغان في ظل تصاعد القتال ميدانياً وإصرار الدول المجاورة لأفغانستان على دعم عملائها المفضلين لاكتساب بعض النفوذ في البلاد. باختصار ستبقى أفغانستان واحدة من أبرز البلدان التي تشهد صراعات عنيفة حول العالم لفترة طويلة.

لكن لن تُخفف أي من هذه التوقعات المؤلمة من حجم المشكلة الأساسية: بعد مقتل 2419 جندياً أميركياً، وتكبّد حوالى تريليون دولار من أموال دافعي الضرائب (أنفقت الولايات المتحدة 45 مليار دولار على الحرب وحدها في السنة الماضية)، وإطلاق جهود ملطّخة بالدم على مر 17 سنة، تعجز الولايات المتحدة عن حل المشاكل السياسية القائمة في أفغانستان. يمكن ملء موسوعة كاملة بتلك المشاكل، بدءاً من الفساد السياسي المنهجي، وسطوة أمراء الحرب، والاقتتال على أساس عرقي، وصولاً إلى التراجع الاقتصادي البارز، وسيطرة البيروقراطية الفائقة، وغياب سلطة الحكومة في المناطق الريفية.

لا يمكن أن يحلّ الجيش الأميركي أي واحدة من المشاكل الواردة على هذه اللائحة بشكل نهائي. في عالمٍ بات يرتكز بوتيرة متزايدة على التنافس بين القوى العظمى، لا يمكن اعتبار هذا الوضع في مصلحة الولايات المتحدة بأي شكل.

بعد البقاء في هذا المستنقع الشائك طوال عقد ونصف، يسهل أن ننسى السبب الأصلي الذي جعل الولايات المتحدة تتورط في أفغانستان. لم تكن المهمة الأميركية في أفغانستان تتعلق في الأساس بنشر الديمقراطية في آسيا الوسطى، أو إنشاء اقتصاد مبني على مبدأ السوق الحرة الغربية، أو المشاركة في تجربة اجتماعية، بل كان الهدف الفعلي يتعلق بإطلاق رد صارم على شبكة «القاعدة» بقيادة بن لادن، والانتقام لضحايا اعتداءات 11 سبتمبر، وتوجيه رسالة واضحة إلى أي تنظيم إرهابي آخر حول العالم يفكر بتقليد هجوم 11 سبتمبر.

كانت المهمة الأميركية تتعلق أيضاً بمعاقبة نظام «طالبان» الذي سهّل انتشار «القاعدة» على الأراضي الأفغانية. حققت واشنطن جميع تلك الأهداف بعد أشهر على إطلاق الحملة العسكرية في أفغانستان، لكن بدل إعلان النصر والانسحاب حينها، عمدت إدارة بوش إلى توسيع المهمة فانتقلت من مكافحة الإرهاب إلى تحويل بلدٍ يقع في أسفل مؤشر التنمية البشرية إلى نسخة مصغّرة من القيم والنزعة التقدمية السائدة في الغرب.

أمام هذه الطموحات الفائقة، هل يجب أن نتفاجأ من فشل الاستراتيجية الذريع؟ يبدو أن أوساط واشنطن تتجاهل خيبة الأمل التي أصابت الشعب الأميركي في الشأن الأفغاني منذ فترة طويلة أو تعجز عن فهم موقفه.

وفق استطلاع أجرته وكالة «أسوشيتد برس» بالتعاون مع «مركز بحوث الشؤون العامة» هذا الأسبوع، يوافق 41% من الناس على انسحاب القوات الأميركية. على صعيد آخر اعتبر 49% من الأميركيين الذين شاركوا في استطلاع أجراه مركز «بيو» للأبحاث أن الولايات المتحدة فشلت في تحقيق أهدافها في أفغانستان لأن تلك الأهداف تتجاوز على الأرجح نطاق عمل القوات الأميركية. في ملف السياسة الخارجية، من الواضح إذاً أن الرأي الذي يُجمِع عليه معظم المشرّعين والنقاد والخبراء على جانبَي الانقسام السياسي لا يتماشى مع وجهة نظر الأميركيين العاديين.

لنأمل جميعاً أن يتمكن السفير زلماي خليل زاد، المبعوث الخاص لإدارة ترامب إلى مصالحة أفغانستان، من تحقيق أهدافه فيخرج من المحادثات بعد عقد اتفاق سلام ينهي الصراع القائم، لكن إذا أعيقت المحادثات بسبب خلافات تافهة بين الأطراف الأفغانية، كما هو متوقع، وعجز خليل زاد عن نقل أنباء إيجابية إلى البيت الأبيض، فمن غير المنطقي أن توافق الإدارة الأميركية على توصيات الأشخاص الذين أخفقوا بالكامل في ملف أفغانستان.

لقد بذلت الولايات المتحدة قصارى جهدها في أفغانستان، حان الوقت كي يعود الجنود إلى ديارهم! إذا لم تُنفَّذ هذه الخطوة الآن فمتى ستتحقق إذاً؟

دانيال ديبيتريس