السيرة وشبه السيرة والرواية
كان النقاش يدور حول ما إذا كنا نعتبر الجنس الأدبي "السيرة الذاتية" Autobiography رواية بمعنى Fiction، مأخوذين بالجهد الأدبي والفني الذي يبذله كاتب هذه السيرة لتكون مشوقة ومقروءة. لكن الحقيقة أن السيرة ليست رواية بالمفهوم الفني أو التأطير الأدبي، هي فن مستقل وجنس مختلف عن الرواية، لأسباب أهمها لجوء الكاتب إلى الحقيقة، وابتعاده عن الخيال. فاختياره لهذا الجنس هو اختيار مقصود، ليقول لنا إن ما أكتبه لكم هو الحقيقة، وما أسرده من أحداث ليس للخيال علاقة بها. كل الشخصيات التي يتطرَّق لها أو يتناولها ملزم أخلاقيا بأن تكون جزءا من هذه الحقيقة. ليس لكاتب السيرة من مجال خيالي يستطيع من خلاله تمرير أحداث لم تقع، أو إضافة شخصيات لحياته لم يكن لها وجود في الواقع.
السيرة الذاتية عمل مقلق، خصوصا في عالمنا العربي، فهي عمل يحتاج إلى جزء من الكشف وحرُية مطلقة في التعبير. هي ليست سيرة الذات فقط، بل كل الذين يردون على هذه الذات ويحتكون بها ليكونوا روافد لهذه السيرة. لهذا إما أن تقتصر هذه السيرة على ما يمكن أن يسمح به، ويتم كتمان ما لا يسمح به، وهي في هذه الحالة تعد سيرة ناقصة وغير مقنعة، أو البوح الكامل، بغض النظر عن رأي هذه الشخوص التي شاركت كاتب السيرة حياته. في بعض الأحيان تُوكل كتابة هذه السيرة إلى شخصٍ ثانٍ يتم التواصل معه عن طريق صاحب السيرة، واختيار ما يريد نشره، والابتعاد عما لا يريد، يحدث ذلك للكثير من المشاهير الذين يستعينون بغيرهم من الكُتاب.هناك جنس أدبي آخر قد يخرج الكاتب من معضلة البوح الكلي والكشف التام عن كل سيرة الحياة بتفاصيلها الدقيقة والمحرجة، وهو شبه السيرة الذاتية Semi-autobiography. باستخدام هذا الجنس الأدبي يقوم الكاتب بالمزج بين ما هو واقعي وما هو خيالي، لدرجة يصعب الفصل بينهما، فتمتزج سيرته الذاتية مع خياله. بإمكان الكاتب هنا أن يضيف للشخصيات والأحداث شخصيات أخرى وأحداثا من نسج خياله، كمن يراوح بين العمل الروائي والسيرة الذاتية. الجنس الأهم، مقارنة بسواه، هو الرواية Fiction، فهو العمل الذي يعتمد الخيال المشابه أو الموازي للواقع، والذي يتماس معه أو يبتعد عنه، ليخلق واقعا جديدا ليس من السيرة أو شبه السيرة. الرواية تمنح الكاتب ميزة الخروج من قيود الواقع، ويمكن في كل عمل جديد خلق عالم لا يشبه الذي سبقه. فالسيرة الذاتية، مقارنة بالرواية، هي عمل لا يمكن تكراره مرة أخرى، فكتابة السيرة ستكون مرة واحدة فقط، وربما كان الكاتب شخصا لا علاقة له بالإبداع الروائي أو حتى الكتابة الإبداعية.ضمن هذه الأجناس الثلاثة، فإن العمل الروائي هو الأكثر صعوبة، فأنت لا ترى أحداث روايتك مجسَّدة أمامك واضحة المعالم، كما هو الحال في الجنسين الآخرين، وربما تأخذك الأحداث إلى عالم لم تخطط له ولم تنوِ الكتابة عنه، على العكس من السيرة وشبه السيرة، فإن الأمور واضحة المعالم، وقد تعتمد أحيانا على وثائق ومذكرات وسجلات حياتية وشهادات، بمعنى آخر هي أقرب للتوثيق منها للابتكار.