الشعراء أفسدوا الأغاني!
ظلت الأغنية، منذ نشأتها وحتى وقتنا الحالي، مرتكزة على أعمدتها الرئيسية الثلاثة، وهي الكلمة واللحن والأداء، صحيح أنه مع التطور التاريخي للأغنية والتقدم التكنولوجي، دخلت عوامل أخرى لعبت دورا مؤثراً في صناعة الأغنية، كالتوزيع الموسيقي، وهندسة الصوت، والتنفيذ، وعناصر أخرى أصبحت جزءًا من العملية الإبداعية لخلق أغنية ناجحة، إلا أن المثلث الأساسي للأغنية بقي هو الرقم الصعب في معادلة الأغنية، ولم يتمكن أحد من الاستغناء عن أي ركن من أركانه، لكن أحد هذه الأركان تم تغيير جلدته، ووصل التغيير في كثير من الأحيان إلى روحه التي تم التلاعب فيها وتحويلها إلى غير طبيعتها، وأعني بهذا الركن الذي تم تحريفه عن مساره، الكلمة.الكلمة في الأغنية جزء لا يتجزأ من جوهر صناعتها، لذلك لمعت على مر تاريخ الأغنية أسماء كانت "مهنتهم" الكتابة للأغنية، تخصصوا في هذا المجال وأبدعوا فيه، وكان يطلق عليهم غالباً "مؤلفو أغنية"، هم لا يجيدون شيئا كإجادتهم لكتابة كلمات أغنية، لهذه الكلمات مواصفات معيّنة ومقاييس ومعايير تبدأ من الفكرة إلى التسلسل الدرامي في المقاطع، ولا تنتهي باختيار المفردات التي تلامس الشريحة الأكبر من المتلقين.تبقى هذه الكلمات التي يتم كتابتها حية مع وقف التنفيذ، إلى أن يمدها لحن ما بالأكسجين، فيعلن ميلادها على الملأ، ويحرر لها شهادة ميلادها، وقبل حدوث ذلك تبقى تلك الكلمات خديجة في حاضنة الزمن بين الحياة والموت، إلى أن يتولاها لحن ما برحمته، كانت هذه الميكانيكية التكاملية هي ما يعطي الأغنية ذلك الارتباط العضوي بين أركانها، ويكتب لها الخلود إذا ما أبدع أطرافها كلّ فيما يخصه.
الآن الوضع اختلف كثيرا، فقد بقيت الكلمة عنصرا ثابتا في الأغنية، ولكن تم استبعاد مؤلفيها، لقد سرق منهم الشعراء دورهم، دخل الشعراء الأغنية من النافذة فخرج مؤلفوها من الباب، دخل الشعراء بكامل عدتهم من كلمات مفخخة بالصور الشعرية وتوريات وجمل بلاغية ووحدة عضوية للقصيدة، فشوهوا ركنا أساسياً من أركان القصيدة، وإن لم يهدموه من أساسه، استعرضت المفردة الشعرية عضلاتها وقوتها في الأغنية بكل أنانية وجلافة، لتكون هي البطل الرئيس على مسرح الأغنية، وما عداها "كومبارس"، حتى أن الألحان في الأغنية المعاصرة تراجع دورها كثيرا، وأصبحت تأخذ دور "السنّيد"، كما يطلق على الممثل الثاني في السينما أو المسرح، وليس كما كانت من قبل تتقاسم البطولة مع الكلمات، بل أن لها غالباً اليد العليا في نجومية الأغنية.لقد أفسد الشعراء بقصائدهم الأغنية، وأخرجوا كلماتها من ثيابها وتركوها في العراء، ساعدهم في ذلك ملحنون ينقصهم الوعي وربما الإبداع الكافي، لدرجة أنهم قلصوا أدوارهم بأنفسهم وتركوا كراسيهم المتقدمة للشعراء في الأغنية، وجلسوا في الصفوف الخلفية "مُتمَتْرسين" خلف كلمات قصيدة.قليل من الأغاني التي اتصفت بـ "الشاعرية" ولم تسقط في فخ الشعر، والأقل بكثير تلك الأغاني التي لامست الحد الأدنى من تجربة "الرحابنة" في هذا السياق، أقصد كلمات أغنية تتمتع بالمفردة البسيطة ذات الدلالة العميقة وبلمسة من سحر الشِّعِر!