منذ 19 ديسمبر، تجتاح الاحتجاجات السودان، وقد بدأت في المركز التاريخي للحركة العمالية وبلدة السكك الحديدية عطبرة، ثم انتشرت في أنحاء البلد. يعتبر المحتجون هذه الحركة ثورة فعلية، كما حصل خلال الربيع العربي بين عامَي 2010 و2011، ينادي المتظاهرون السودانيون بكلمات مثل «الحرية» و»العدالة» بشكلٍ متواصل. يستوحي الكثيرون تحركاتهم من الانتفاضات التي حصلت في بلدان مجاورة مثل مصر، إلا أن هذه الانتفاضة السودانية تشتق فعلياً من حركات العصيان المدني التاريخية التي كانت قد أطاحت بنظامين عسكريين سابقين في عامَي 1964 و1985، وتُعتبر الاحتجاجات الراهنة من أقوى التحديات الشعبية التي يواجهها نظام عمر حسن البشير منذ وصوله إلى السلطة قبل 30 سنة.في حين جمع أعضاء النظام الحاكم والأشخاص المقربون منه ثروات طائلة، عمد نظام البشير إلى إضعاف سبل عيش ملايين الناس المقيمين في المناطق الواقعة خارج الخرطوم، فلا يمكن اعتبار هذا الوضع مستجداً، بل إنه امتداد راسخ للاستعمار البريطاني وللسياسة السودانية في حقبة ما بعد الاستعمار، وقد ارتكزت تلك السياسة على معاملة مناطق مثل الجنوب ودارفور كأماكن فرعية لدعم العاصمة التي تتراجع قيمتها أيضاً. كان استقلال جنوب السودان في عام 2011 سبباً لاحتفال السودانيين الجنوبيين الذين تحمّلوا عقوداً طويلة الحرب والعنصرية والتهجير بسبب الحكومات المتلاحقة في الخرطوم، لكن شكّل ذلك الحدث في المقابل خسارة مؤلمة أو حتى صدمة قوية بالنسبة إلى عدد كبير من سكان الشمال.
منذ عام 2011، اندلعت الاحتجاجات بوتيرة متقطعة في السودان، وكان أبرزها في سبتمبر 2013، وقد قُمِعت كلها بطريقة وحشية. في الوقت الراهن، تستمر الاحتجاجات بشكلٍ متواصل ويبدو أنها تتوسع وتنتشر في مختلف المناطق الجغرافية. في بيان مشترك، دانت بريطانيا والنرويج والولايات المتحدة وكندا أعمال العنف التي تعرّض لها المحتجون، واعتبرت تلك البلدان أن «قرارات حكومة السودان خلال الأسابيع المقبلة ستؤثر في التزام حكوماتنا وحكومات أخرى في الأشهر والسنوات القادمة»، لكن لم يتّضح بعد ما إذا كانت تلك البلدان تنوي تنفيذ ذلك التحذير، بما أن جزءاً من مصالحها الجيوستراتيجية يتعلق بهذه المنطقة. منذ عام 2015، خصّص الاتحاد الأوروبي مئات ملايين الدولارات للسودان كجزءٍ من استراتيجيته للسيطرة على حركة الهجرة في دول العالم الثالث.يصعب أن يتوقع أحد نتائج هذه الانتفاضة، لكن لا يمكن إنكار قوتها وديناميّتها، لقد كان توسّع الاحتجاجات بوتيرة جارفة ومتواصلة كفيلاً بتصعيب احتوائها حتى الآن، كونها بدأت خارج الخرطوم قبل أن تصل إلى العاصمة، وأدى هذا الوضع إلى اختلال توازن النظام الذي كان قد ضَعُف أصلاً بفعل الانقسامات الداخلية وتناقص الموارد، وعمد النظام إلى حشد جهازه الأمني في الخرطوم ولم يكن يتمتع بالمعدات اللازمة للتعامل مع المحتجين في مدن مثل القضارف في شرق السودان، أو دنقلا في أقصى شمال البلاد. كذلك، يبدو أن النظام أخطأ في حساباته حين افترض أن تلك البلدات انهارت سياسياً بما أنها منهارة اقتصادياً، حيث يتكرر هذا الدرس دوماً، بدءاً من فرنسا وثورة السترات الصفراء وصولاً إلى الاحتجاجات الراهنة في السودان: على كل نظام أن يتحمّل مخاطر تهميش مساحات واسعة من البلاد!في الوقت نفسه، اتخذت الاحتجاجات موقفاً مناهضاً للعنصرية لرفض محاولات النظام تحميل سكان دارفور مسؤولية الاضطرابات القائمة، فانعكس هذا الموقف بهتافات «البلد كله دارفور!» خلال التظاهرات، وفي منطقة تشوبها الاضطرابات الإثنية والتسلسلات الهرمية، تُعتبر هذه الظاهرة من أبرز المؤشرات الواعدة في هذه الانتفاضة، كونها تشير إلى نشوء وعي جديد في هذا البلد الذي يجد صعوبة في رسم هوية وطنية شاملة ومتماسكة منذ وقت طويل. كي يفرض المحتجون سيطرتهم، يجب أن يتجاوزوا مخاطر هائلة، لكن النظام خسر جزءاً كبيراً من مصداقيته على مر العقود الثلاثة التي حكم فيها البلاد لدرجة أنه أصبح على شفير الهاوية.تتعلق المسألة الأساسية الآن بمعرفة ما سيحصل في المرحلة المقبلة، لكن يبدو هذا السؤال جزءاً من المحظورات وقد اتّضح ذلك في واحد من أشهر الشعارات التي أطلقها المحتجون: «تسقط بس»! اليوم، يركّز الناشطون داخل السودان وخارجه على تشجيع الشعب السوداني كي يشعر بأن النصر ليس ممكناً فحسب، بل إن نسبة نجاحه مرتفعة في حال توحّد البلد كله حول مطالبه. يأمل هؤلاء أن يتشجع الكثيرون على المشاركة في الاحتجاجات، رغم ارتفاع احتمال تعرّضهم للإصابات أو الاعتقال أو حتى الموت. يبدو أن هذه المقاربة فاعلة، إذ من الواضح أن الغضب من القتل العشوائي الذي يمارسه جهاز أمن الدولة يؤجج الاحتجاجات بدل إخمادها. أدى قتل الطبيب الشاب بابكر عبدالحميد بدم بارد في الأسبوع الماضي في الخرطوم إلى سخط عام، وقد نظّم الناشطون اعتصاماً حاشداً في أحد المستشفيات في المنطقة التي كان يعالج فيها المصابين.لكن لا يمكن الامتناع عن التساؤل عما سيحصل في المرحلة المقبلة. لطالما حاول النظام بث الخوف بين الناس على اعتبار أن سقوطه سيقود البلد إلى سيناريو مشابه لما حصل في ليبيا أو اليمن أو حتى سورية، قد تكون هذه المخاوف واقعية نظراً إلى انتشار الأسلحة والميليشيات في السودان، لكن لم يكن هذا التهديد كافياً لردع المتظاهرين والمحتجين، كما يصرّ الناشطون على موقفهم حين يتعرّضون للضغوط: لا يمكن أن يستمر الوضع على حاله بحسب قولهم، ولا مجال للتراجع مطلقاً. سواء نجحوا أو فشلوا على المدى القصير، لقد اختاروا أن يؤمنوا بأن جهودهم الراهنة ستكون كفيلة بنشوء نسخة جديدة ومُحَسّنة من السودان يوماً!
دوليات
الانتفاضة الثالثة في السودان... ثورة حقيقية؟
15-02-2019