في 30 يناير 2018 أقر مجلس الأمة الكويتي قانون الصحة النفسية، الذي يعد نقلة نوعية في الرعاية الصحية، وسداً لفراغ قانوني وتطورا كبيرا في ضمان الحقوق الإنسانية الأساسية والدستورية، إلا أن للقانون وجها آخر من الأهمية، فهو أول قانون في تاريخ الكويت يبادر المجتمع المدني بصياغته لتنظيم عمل جهة حكومية، مما يعكس نجاحا كبيرا وتجربة فريدة لتضافر جهود المجتمع المدني ومجلس الأمة والحكومة على مر سنوات، لصياغته والدفع بإقراره. لقد قدر لي أن أكون شاهدا على كل مراحل هذه التجربة الفريدة، وهذا يحملني مسؤولية مشاركتها باعتبارها درسا مضافا للخبرة التراكمية في العمل المدني قد تستفيد منها الجماعات التي تسعى للتغيير الذي لا يحتاج بالضرورة إلى تمويل خاص أو دعم من جهات دولية أو سياسية، بل مجموعة من الكفاءات الوطنية الجادة والمخلصة وذات النفس الطويل.
فقبل ثماني سنوات، وبحكم عضويتي في لجنة الشكاوى بجمعية حقوق الإنسان، تلقيت شكوى من إحدى النساء عن تعرضها لعنف منزلي وحبس حرية لفترة طويلة، وبالتنسيق مع أحد المحامين طلبت المرأة المساعدة من الجهات المختصة، إلا أني فوجئت باتصالها بعد شهر تقريبا لتخبرني أن أهلها استغلوا نفوذهم لتحويلها من مخفر الشرطة إلى مستشفى الطب النفسي، حيث أودعت دون سبب طبي. أقلقني الموضوع فتوجهت فورا إلى رئيس جمعية حقوق الإنسان، المحامي علي البغلي، فزودني بطلب زيارة مستشفى الطب النفسي، وتوجهت إلى المستشفى مع فريق من لجنة الشكاوى، إلا أن مدير المستشفى رفض طلبنا، وتكرر هذا الرفض عدة مرات، وعلى الرغم من أن إدارة المستشفى أبلغتنا في إحدى المرات أن الفتاة قد تم إخراجها، إلا أن إدراكنا لوجود مشكلة هناك جعلنا نصر على طلبنا.بعد خروج المدير في إجازة سمح لنا نائبه بزيارة جميع مرافق المستشفى والتحدث مع الأطباء، وتبين وجود عدد كبير من الأشخاص الذين دمرت حياتهم بسبب إبقائهم إلزاميا عشرات السنين أحيانا بدون سبب طبي، إضافة إلى تلقيهم العلاج الإجباري دون ضوابط، وبدون أي ضمانات تحفظ حريتهم وحقهم في التواصل مع الخارج أو توكيل محام، وذلك ليس لسبب طبي، بل بسبب ضغط الأهل الذين أودعوهم لأسباب اجتماعية أو اقتصادية أو لاستغلالهم. كما عبر لنا العديد من الأطباء النفسانيين عن عدم رضاهم عن هذا الوضع الذي سببه سوء إجراءات المستشفى الإدارية لتنظيم دخول وخروج المرضى، والتي عززها عدم وجود قانون ينظم هذه العملية ويجرم احتجاز وسلب حرية الأشخاص على هذا النحو. لذا توجهت إلى نائبة رئيس جمعية حقوق الإنسان حينها، الأستاذة مها البرجس، باقتراح إنشاء فريق لصياغة هذا القانون، ووجدت منها كل الدعم لهذه المبادرة التي استجاب لها العديد من المهتمين من المتخصصين، وقد اختارني الأعضاء رئيسا للفريق لأني صاحب المبادرة، على الرغم من أن منهم من يفوقني علما وخبرة.تشكل فريق العمل في 2010 وانقسم ثلاثة فرقاء: الفريق النفسي، بعضوية د. عبدالله الحمادي والاستشارية سميرة القناعي والاختصاصية د. بثينة المقهوي. والفريق القانوني، بعضوية د. محمد الفيلي والمحامية فوزية الشطي والقانوني جاسم دشتي. والفريق الحقوقي، لضمان انطباق معايير حقوق الإنسان على هذا القانون، وقد توليت أنا هذه المهمة.وبدعم من كثير من المتطوعين بدأت المشاورات مع المختصين والمهتمين، ودراسة القوانين الأخرى المماثلة، ودراسة معايير منظمة الصحة العالمية لصياغة هذا النوع من القوانين، واستمر العمل نحو 10 أشهر من الاجتماعات الأسبوعية المطولة لصياغة قانون يضمن حماية كل الحقوق دون استثناء بعيدا عن أي روح أجنبية تتجاهل المشاكل المحلية أو تضع حلولا وآليات غير واقعية، ويتناسب مع المنظومة التشريعية الكويتية، فخرجنا بقانون من 47 مادة يحقق جميع المتطلبات الصحية والإنسانية ويتفوق بجودته وبالحقوق المكفولة فيه على جميع قوانين الصحة النفسية بالمنطقة. وتحضرني اليوم لحظة لا تنسى أثناء الاجتماع الأول للفريق حين علق د. الفيلي: هذا قانون ينظم عمل جهة حكومية، ولم يسبق أن شرع قانون في الكويت ينظم عمل جهة حكومية لم تتقدم به الحكومة. ثم استدرك: "لكن، هناك مرة أولى لكل شيء"، فنظرت إلى الوجوه من حولي بحثا عن بوادر تراجع أو إحباط، لكني لم أر إلا إصرارا أكبر وعزما أشد.
مقالات - اضافات
قانون الصحة النفسية (1-2)
15-02-2019