شتاء «طنطورة»!
يقام في هذه الأيام أضخم مهرجان فني وثقافي في تاريخ السعودية، حيث لم يسبق للمملكة أن احتضنت مهرجانا فنيا وثقافيا بهذا الحجم، رغم احتضانها مهرجانات ثقافية وفنية ضخمة فيما سبق، كمهرجان الجنادرية للتراث والثقافة، ومهرجان المفتاحة، الذي كان يقام بمدينة أبها، وسوق عكاظ، الذي يقام سنويا في مدينة الطائف، إلا أن المهرجان الذي مازالت فعالياته تقام في مدينة العلا بعنوان "شتاء طنطورة" هو أكبر هذه المهرجانات، وأكثرها تميزا، وجذبا للزوار من داخل السعودية وخارجها، على حد سواء.وأظن أن اختيار مدينة العلا مكانا لإقامة مثل هذا المهرجان جاء في صميم رسالته الإعلامية، فالعلا إحدى المناطق التي تمثل الإرث الحضاري والتاريخي للمملكة خير تمثيل، هذا الإرث الذي يحاول كثير من الجهلة وقليلو الوعي تجاهله وتغييبه، فالمملكة ليست حضارة وُلدت من رحم بئر نفطية، ولا تراث نشأ تحت سقف خيمة في الصحراء، بل حضارة ممتدة في عمق التاريخ، وموصولة في أقصى شرايينه، وما العلا إلا ضمن شواهد هذه الحضارة وهذا التاريخ العريق.إن اختيار هذه المدينة، بمنحوتاتها الصخرية الطاعنة في القدم، وآثارها التاريخية الضاربة جذورها في سفر الماضي، لتكون محجّاً يقام فيه أضخم مهرجان ثقافي وفني في المنطقة، رسالة صريحة وواضحة لكل ذي بصر وكل ذي بصيرة ليرى أي إرث تاريخي وأي عمق حضاري يتمتع به هذا البلد.
وبالإضافة إلى هذه الرسالة، التي تمثلت في البُعد التاريخي والأصيل لمدينة العلا، هناك رسالة ثانية امتزجت مع الرسالة الأولى، وشكَّلت ثنائيا متحدا معها، وكوَّنا معاً وجهان لعملة واحدة في مهرجان شتاء طنطورة، وهذه الرسالة الثانية تمثلت بالرؤية العصرية في تقديم فعاليات المهرجان وأنشطته، والتي استخدمت فيها أحدث الوسائل التكنولوجية والتقنية المتقدمة، مما جعل المزج بين الأصالة وروح العراقة من جهة، والرؤية الاستشرافية للغد بعزيمة طموحة نحو مستقبل أجمل من خلال الإبهار التقني يشكل صورة فاتنة ومدهشة لكل من تابع فعاليات المهرجان، سواء أولئك الذين زاروا المكان فعلا وحضروا أنشطته أو بعضها، أو الذين تابعوها من خلف الشاشات الفضية التي نقلت لهم فعاليات صيغت من الذهب، وسرقت الحواس، بكل ما تعنيه الكلمة من معنى.هاتان الرسالتان شكَّلتا معاً رسالة واحدة تعكس باختصار الرؤية الحديثة للمملكة، فالمملكة بصدد اجتياز هوة كبيرة من الزمن، واجتياز الهوة عادة لا يأتي بخطوتين، إذ لابد من اجتيازها بوثبة جريئة تماما، كما يحدث الآن، فالمملكة تعيد تشكيل ذاتها بصورة مذهلة، وتعيد صياغة روحها من خلال "عصرنة" الحياة فيها، مع الحفاظ على روحها الأصيلة، هذا ما اختصرته رسالة شتاء طنطورة.ولأن أي رسالة بحاجة إلى ساعي بريد مؤتمن لإيصالها كان لمشاركة كبار الفنانين العالميين، كبوتشيلي وياني ورينو كابسون، وفنانين عرب، كالموسيقار عمر خيرت وماجدة الرومي، وغيرهم ضرورة تقتضيها الحاجة لإيصال الرسالة عن الوجه الجديد للمملكة، فهل هناك أصدق من الفن كرسول يؤتمن؟! وهل هناك أكثر جدارة من المملكة لإقامة مثل هذا المهرجان الضخم، بما تملكه من إمكانات مادية ولوجستية وتنوع ثقافي وفني فرضته مساحتها الجغرافية المتاخمة لعديد من الدول ذات الثقافات والفنون المتنوعة، مما شكل للمملكة نسيجاً ثقافياً غنياً وثرياً قلما نجده في دول أخرى؟!