سياسات إسبانيا المتعطلة مثقلة بالقلق والسأم
يتقدّم سياسيو المملكة المتحدة نحو خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي كما لو أنهم حيوان جريح، مندفعين إلى الأمام بطريقة مترنحة، عمياء، ومذعورة، ولخّص الكاتب الأكاديمي والسياسي وليام ديفيد قبل أيام المزاج الوطني السائد، واصفاً إياه "بخليط من القلق والسأم". لا شك أن هذا شعور محير، وخصوصاً عندما نقلق حيال الفوضى التي يعتقد كثيرون أنها ستنشأ بعد مهلة 29 مارس النهائية ويتملكنا في الوقت عينه السأم والتعب من الصراعات السياسية الداخلية المتواصلة ونرغب في تخلص من كل هذا فحسب.يعرف طلاب التاريخ البريطاني أن الانتخابات العامة السنوية شكّلت أحد المطالب الستة للإصلاح الانتخابي التي طرحتها الحركة الميثاقية الرائدة في عام 1839، ولكن بعد محاولات عدة للتأثير في البرلمان، تفككت هذه الحركة نحو نهاية أربعينيات القرن التاسع عشر، إلا أن إرثها كان قوياً، وفي نهاية المطاف رُسخت كل مطالبها، من الاقتراع العام إلى عملية التصويت السرية، في القانون البريطاني، باستثناء واحد، وكان ذلك لسبب وجيه كما يُظهر بوضوح خليط إسبانيا السام من عدم الاستقرار والركود الذي يتفاقم بسبب عمليات الاقتراع شبه السنوية.لم يشأ بيدرو سانشيز، زعيم حزب العمال الاشتراكي الإسباني، الدعوة إلى هذه الانتخابات، إلا أنه أُرغم على ذلك عندما صوت انفصاليو كتالونيا مع أحزاب اليمين المعارضة ضد الموازنة المتطرفة التي كانت، من بين تدابير أخرى، سترفع الحد الأدنى للأجور بنسبة 22%، وتضخ 1.3 مليار يورو في إعانات البطالة والإعاقة، وتخصص ملياراً آخر للعلوم والتعليم، لكن هذه الخطوة أسقطت بفاعلية حكومة سانشيز وفرضت حل البرلمان الإسباني. لم تنبع خطوة الأحزاب الكتالونية هذه من أي عداء عقائدي كبير لبرنامج سانشيز الإنفاقي، بل تركز محور معارضتها حول رفض رئيس الوزراء الإقرار بمطالبها بحق تقرير المصير، وهكذا بعد عقود من الاعتمال كالجمر تحت الرماد، برزت قضية كتالونيا (على غرار علاقة بريطانيا بالاتحاد الأوروبي) مجدداً وتحولت إلى سبب انقسام داخل المجتمع الإسباني، كذلك صارت مسألة أحدثت فيها الأفكار عن السيادة والهوية الوطنية شرخاً بين مجتمعات نجحت في التعايش سابقاً.
يأتي قرار الأحزاب الكتالونية في أعقاب محاكمة تاريخية بدأت في مدريد، فقد مثَلَ 12 زعيماً سياسياً ومدنياً كتالونياً أمام قضاة المحكمة العليا بعد اتهامهم بتنظيمهم بطريقة غير مشروعة استفتاء أكتوبر عام 2017 الذي أدى إلى إعلان هذه المنطقة استقلالها، وإذا أُدينوا فقد يمضون نحو 25 سنة خلف القضبان، لكن المفارقة تكمن في أن سانشيز، من بين زعماء الأحزاب الكبرى، كان على الـرجح أفضل فرصة للانفصاليين لنيل حريتهم، وإن كان ذلك ذا طبيعة شخصية عموماً، نظراً إلى أنه رفض سابقاً استبعاد الإعفاء عن المتهمين بعد انتهاء المحاكمة.لا تُعتبر إسبانيا ديمقراطية ناضجة نسبياً، فلم يُعَد تأسيسها حتى عام 1977 بعد موت الدكتاتور الفاشي الجنرال فرانكو، فخلال تلك الفترة الانتقالية دارت مناظرات كثيرة حول ماهية إسبانيا، وسعت مناطق عدة، وخصوصاً كتالونيا وإقليم الباسك، لنيل استقلالها، في حين أملت أخرى البقاء جزءاً من دولة إسبانيا الأشمل. وفي النهاية عُقدت تسوية جمعت بين البلقنة والامتصاص الكامل، فقُسّمت إسبانيا إلى 17 "مجتمعاً مستقلاً ذاتياً" لكل منها صلاحيات جمع الضرائب والتشريع، فضلاً عن برلمانها الخاص، إلا أنها كلها تابعة لمدريد، وأُعطيت مقاربة "كل شيء للجميع" هذه شعاراً مقنعاً: "القهوة للجميع".ولكن من المؤسف اليوم أن الدلة فرغت ولم يتبقَّ فيها سوى الحثالة، وبدأ صبر المواطنين الإسبان على جانبَي الطاولة ينفد. قد يتبدّل الكثير قبل انتخابات أبريل، إلا أن استطلاعات الرأي تشير إلى أن النتائج بعيدة كل البعد عن الوضوح، تماماً على غرار انتخابات ديسمبر عام 2015 ويونيو 2016، ففي كلا عمليتي الانتخاب، فاز حزب الشعب اليميني بالعدد الأكبر من المقاعد، إلا أنه أخفق في الحصول على الأكثرية أو تشكيل ائتلاف ناجح، إذ تكمن المشكلة في أن الانقسامات العميقة التي واجهتها إسبانيا خلال السنوات الخمس الماضية لم تقتصر على العلاقات بين مناطقها، بل ما زالت قائمة أيضاً في البنية السياسية.في كل الانتخابات العامة الإحدى عشرة الأولى التي نُظّمت منذ إعادة تأسيس الديمقراطية، حصل الحزبان الرئيسان، حزب العمال الاشتراكي الإسباني وحزب الشعب أو أسلافهما المقربين، مجتمعَين على 280 مقعداً أو أكثر من مقاعد الكونغرس الإسباني الثلاثمئة والخمسين. في المقابل، فازت الأحزاب الأخرى عموماً بأعداد مقاعد ضئيلة، ولكن منذ عام 2015 تخطى عدد مقاعدهما المئتين بصعوبة مع كسر الوافدين الجدد، مثل حزب اليسار بوديموس وحزب اليمين الوسطي "المواطنون"، سيطرة الحزبين القائمة. ومع فوز حزب "فوكس" اليميني المتطرف بانتظام بنحو 10% من الأصوات في استطلاعات الرأي المحلية اليوم، ستشكّل الانتخابات العامة الإسبانية التالية سباقاً تجري فيه خمسة أحصنة، علماً أن المقايضة لتشكيل الائتلافات ستكون أكثر شيوعاً من أي وقت مضى.كما أن عملية خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي فضلت العقيدة على واقع الحكومة العملي، كذلك أعطت الإطاحة بموازنة سانشيز الأولوية لمسائل الأمة والهوية العاطفية على حساب السياسات المهمة فعلاً، كان هدف موازنة سانشيز، التي نالت دعم حزب بوديموس، التمهيد لمستقبل جديد، ومشرق، وشامل في إسبانيا. ولو دعمها الكتالونيون لمُررت، ولكن بدلاً من ذلك، تتجه الأمة راهناً نحو انتخابات عامة أخرى ستبرز فيها العداوات القديمة، لن نشهد أي تبدل يُذكر، وسيبقى الناس عالقين في حالة السأم والقلق ذاتها كما أصدقائهم في المملكة المتحدة.* دان هانكوكس*«ذي ناشيونال»