هذه أول رواية أقرأها للكاتب الجزائري المشهور باسم ياسمينا خضرا. ولأن عالم الكتابة واسع وكُتابه كثيرون، فلا يتوقع منهم معرفة بعضهم البعض. كُتب على غلاف الرواية الأول، أنه الكاتب العربي الذي تُرجمت أعماله إلى 40 لغة، ما أثار فضولي وشدني للعنوان، فهو أشبه بفخ ذكي لاصطياد القارئ.الرواية أوقعتني بإشكاليتين؛ الأولى اسم المؤلف، الذي بعد البحث في "غوغل" اكتشفت أنه رجل وليس امرأة، وياسمينا خضرا اسم زوجته، حيث كان يكتب باسمها عندما كان ضابطا بجيش التحرير الوطني ضد الاستعمار الفرنسي، وأصدر رواياته خلال فترة عمله بالجيش، وعندما استقال واعتزل الحياة العسكرية واستقر في فرنسا وأتته الشهرة وتُرجمت أعماله فجَّر مفاجأته، بالكشف عن اسمه الحقيقي، وهو محمد مولسهول، ونفى تورط الجيش الجزائري في المذابح التي وقعت للمدنين خلال فترة وجوده بالجيش.
الإشكالية الثانية كانت المكان في الرواية، وهو هافانا بكوبا، وهو ما حرك برأسي الأسئلة: هل عايش الكاتب الأحداث فيه؟ أم أنه تعرَّف على مواطن كوبي حكى له حكايته؟ أم أنه لا الحالة الأولى ولا الثانية؟ إذن تبقى الفرضية الثالثة، وهي التي نبهتني إلى إمكانية الكتابة عن أي مكان في العالم من خلال الاطلاع على بياناته من فيديوهات "يوتيوب" وباحث غوغل، دون الحاجة لمعايشته، عكس ما فعلته بمعظم رواياتي.أعجبني بالرواية حبكتها المبنية على غموض جرائم قتل لم يستدل على فاعلها، وهذا النوع من الروايات يجعل الكاتب والقارئ يهرول حول هدف واحد، وهو اكتشاف لغز القاتل، لكن ياسمينا خضرا اشتغل بحبكة هادئة صرفت تفكير القارئ بعيدا عن مرتكب الجرائم، حتى يفاجئ القارئ بالنهاية، وبهدوء تام يكشف عن القاتل.تقنيته هذه منحت الرواية نوعا ما سردا تحليليا تأمليا هادئا، مما أضاف عمقا لها وتشخيصا تأمليا لأبطالها.وحقيقة الكاتب برع في رسم شخصية المغني "خوان ديل مونتي خونافا"، بطل الرواية، الذي يُفصل من عمله بسبب بيع الملهى الذي كان يغني فيه، ويقع بعشق فتاة متشردة (مانسي)، التقاها بإحدى مركبات القطار المهجور، ورهن حياته من أجلها، رغم أنها شخصية مريضة نفسيا وصعبة المراس، حيث ستطعنه بالسكين وتختفي من حياته: "كرت سبحة الشهور، شهرا بعد شهر، دون أن أجد ما يهدئ روعي. كنت أشعر بأنني روح شريرة مدجنة، وأحيانا أتمنى لو مت. شوارع كازبلانكا الشاحبة، والناس الذين ينظرون بعضهم إلى بعض من دون أن يرى أحدهم الآخر". وأيضا هناك شخصية "بانشيتو" عازف الترومبيت العجوز المعتزل للعالم، لأنه منعتق من كل إغراءاته: "فلأنني لا أريد أن أكون رهينة ما يتجاوزني، أعيش حياتي لنفسي، أنا مرتاح، كما أنا. لا أبكي أحدا، لا قصص الحب المستحيلة، ولا الأحزان التي تصاحبها. حين كنت أحلِّق عاليا بين النجوم، كدت أنسى كيف أمشي بين الناس، لهذا السبب عدت وهبطت إلى أرض الواقع".الشخصيات الثلاث الأساسية مرسومة بنحت مكتمل رائع، وهذا مقتطف يبين شخصية "ماينسي": "رمتني بنظرة لم أرها قط في عينيها من قبل، نظرة لا حياة فيها، مرعبة كأرض تلتهمها النيران، سوداء كأنها وادي الظلمات، نظرة باردة قاطعة كساطور جزار يهوي على قطعة لحم. إجابات ماينسي مصوغة على الطلب، وكأنها إنسان آلي، بنبرة باردة، فارغة، لا طابع لها، صارمة من رأسيها إلى قدميها، قسمات وجهها جامدة، ونظرتها لا يمكن سبر غورها، كأنما هي انعكاس أرضي لروح معذبة معلقة في الفضاء. كدت أمد يدي إليها، لأتأكد من أنها من طينة البشر، من لحم ودم، موقفها المتصلب إنما ينتصب حاجزا، خندقا، خواء محرما مزروعا بالألغام". لا أدري لدي إحساس أن الكاتب اختار المكان لروايته من الإنترنت، ونقل صورة المكان بشكل جيد عكس جزءا من الحياة بهافانا وناسها وملاهيها الليلية وموسيقاها، لكن لم يصلني الإحساس بالمكان بشكل حي قوي يعكس نبض روحه الحقيقية.ياسمينا خضرا حقق معادلة جيدة وجديدة في كيفية كتابة رواية الأكثر مبيعا، لا تمتلك عمقا كافيا بكتابتها، وأن تكون الأكثر مبيعا تمتلك أيضا العمق الذي يضيف كثيرا لنجاحها ليتقبلها معظم القراء، وأعتقد أن هذه المعادلة هي سر نجاح كتاباته، المكتوبة بلغة سهلة وبسيطة يدرك مغزاها الجميع، ولا يتوقف القارئ دقيقة للتفكير في عمق دلالتها، لوضوحها الجلي الذي يمنح قراءة سريعة لسهولتها.
توابل - ثقافات
ليس لهافانا رب يحميها
25-02-2019