أثبت الرئيس الأميركي دونالد ترامب أنه يشوش بالفعل على العلاقة العابرة للأطلسي، وتعرض تساؤلاته حول التزامات أميركا بالدفاع المتبادل في (الناتو) لأزمة وجودية محتملة ومنذرة بسوء، والضمان الأمني الأميركي، في نهاية المطاف، هو إحدى الركيزتين اللتين بني عليهما السلم والرفاهية في أوروبا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وحتى الركيزة الثانية لم تسلم من ترامب، وتتمثل بالنظام التجاري والنظام الاقتصادي العالميين المرتكزين على القوانين.

وبعد مرور عامين فقط من انتخاب ترامب يجد الأوروبيون أنفسهم يرتجفون لوحدهم وسط الرياح الجليدية التي تعصف بها السياسات الدولية، ويتساءلون: ما العمل؟ ومن المنطقي أن أوروبا عليها أن تعزز علاقاتها الداخلية، وأن تقارب صفوفها وتعزز قدرتها العسكرية. وقد يتساءل البعض عما إذا كان هذا ما يريده الأوروبيون بالفعل، إذا أخذنا بعين الاعتبار أننا نعيش في عصر البريكست، الذي سيحرم الاتحاد الأوروبي من ثاني أقوى دولة عسكرية واقتصادية ضمن أعضائه.

Ad

لكن لأن بريطانيا لا تعرف ما تريد فقط، فلا يعني أن باقي بلدان أوروبا تسير في الاتجاه نفسه، وفي الواقع، معظم الأوروبيين يدعمون اتحادا أوروبيا أقوى وأكثر نفوذا بسياسة أمنية مشتركة.

والاستثناء الكبير هو ألمانيا، فبصفتها المحرك الاقتصادي للاتحاد الأوروبي، والدولة العضوة الأكثر شعبوية، لا يمكن أن تكون هناك سياسة أمنية مشتركة بدون البلد الذي يتمركز في قلب أوروبا، لكن إمكانية تحقيق أمن أوروبي مشترك مع مشاركة ألمانيا، يبقى سؤالا مفتوحا.

ولا ينبغي أن يسمح الأوروبيون للاحتمالات بأن تحجب الوقائع المهمة، كما وقع عندما كان الاتحاد النقدي الأوروبي في طور التأسيس في تسعينيات القرن الماضي، فمنذ البداية، كانت هناك اختلافات كبيرة بين الدول الأعضاء، ليس بخصوص السياسة الاقتصادية والمالية فقط، بل أيضا فيما يتعلق بالثقافة والعقلية السياسيتين. ورغم ذلك ساد الجهل المتَعمَّد، وأُطلق مشروع الاتحاد النقدي دون المؤسسات السياسية المندمجة التي يحتاجها.

ولا ينبغي على الاتحاد الأوروبي ارتكاب الخطأ نفسه من جديد. واليوم الحقيقة التي لا يمكن تجاهلها هي أن السياسة الأمنية المشتركة ستحتاج إلى تسوية بين ألمانيا وفرنسا، وهما أكبر وأقوى عضوين في الاتحاد الأوروبي. وتسوية كهذه لن تكون سهلة المنال، ولدى البلدين عقليتان سياسيتان وروايات تاريخية ومصالح جيوسياسية متباعدة جدا، وفي أغلب الحالات تكون متعارضة تماما. ومع ذلك، نظرا لتاريخها الاستثنائي، تشكل ألمانيا العائق الأكبر، حتى إن أظهر خطابها الرسمي العكس.

من جهتها، تعكس الصورة الذاتية التقليدية لفرنسا تاريخها الطويل كقوة أوروبية عظمى، حتى إن انتهت هذه الحقبة، وكذلك السيطرة العالمية لأوروبا بصفة عامة، وبصفتها قوة نووية وعضوا دائما لدى مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، لا تعتبر فرنسا تدخلاتها العسكرية وتصديرها للسلاح فشلا أخلاقيا، بل امتيازا لقوة عالمية تقود السياسة الخارجية.

وكانت عبقرية شارل ديغول تكمن في إعلانه مركز بلاده كقوة منتصرة بعد العالمية الثانية، وشجع هذا الإعلان المواطنين الفرنسيين على نسيان نظام فيتشي، وهزيمتهم ضد النازيين في عام 1940، والتصدعات السياسية الدولية التي حدثت في ثلاثينيات القرن الماضي، وكان لديغول الفضل في حفاظ فرنسا على مسارها السياسي.

لكن هذا لا ينطبق على ألمانيا، فخلال القرن العشرين قدمت ألمانيا عرضين من أجل سيطرة أوروبا وهيمنتها على العالم، ودفعت ثمن ذلك دمارها، هذا دون ذكر دمار أوروبا، وتعرض روح استمرارها التاريخي للدمار عام 1945، وآنذاك فقدت ثقافتها وتقاليدها قيمتيهما، وتدمرت وحدتها الترابية، وأصبحت ألمانيا مرادفة للعنف والرعب والإبادة.

وتخلت ألمانيا بعد الحرب عن سياسات القوة التي تعتمد على الجيش والمغامرة الخارجية، واهتمت، بالأساس، بالتطور الاقتصادي فقط، وببساطة لم يجد الألمان طريقة أخرى تمكنهم من الانضمام إلى الغرب الديمقراطي من جديد، فما بالك المطالبة بالسيادة السياسية. وأسفرت هذه السياسة عن إعادة توحيد الشرق والغرب في عام 1990.

ومع ابتعادهم عن سياسات القوة عام 1945، أصبح الألمان اليساريون واليمينيون مسالمين، وليومنا هذا ما زال العديد من الألمان ملتزمين بالحياد إلى حد كبير، رغم اندماجهم الأوروبي وعضويتهم في الناتو اللذين استمرا عقودا عدة، خصوصا بعد إعادة التوحيد، وهذا راجع إلى حد لا يستهان به، إلى الضمان الأمني لأميركيا ورغبة هذه الأخيرة في تولي شؤون سياسات القوة الوسخة نيابة عن ألمانيا، لكن تقسيم العمل غير النزيه هذا، على غرار النظام ما بعد الحرب الذي تقوده أميركا، انتهى مع انتخاب ترامب.

وتتخلل رجوع ألمانيا إلى سياسات القوة التقليدية مخاطر بالطبع، لكن البديل هو الحفاظ على الوضع الحالي والامتناع عن سياسة أمنية مشتركة مع الاتحاد الأوروبي، وتتضمن سياسة تحوي أكثر من كلمات متكبرة، وتعميق الاندماج السياسي باسم السيادة الأوروبية، وبدون قوانين تصدير مشتركة، على سبيل المثال، لا يمكن أن يكون هناك تعاون جاد بشأن تطوير التسليح الأوروبي، فما بالك تحقيق مشاريع طموحة وبعيدة المنال.

وحاليا، الألمان منهمكون في محادثات قوية بشأن الإنفاق على الدفاع، الذي ينبغي أن يرتفع إلى 2% من الناتج المحلي الإجمالي مع حلول عام 2024، حتى تفي بالتزاماتها مع الناتو، ونظرا للمخاطر الجيوسياسية المتوقعة، والتي تلوح في الأفق، في غياب سياسة أمنية مشتركة مع الاتحاد الأوروبي، سيكون من الضروري أن يرتفع إنفاق ألمانيا على الدفاع أكثر، لتعويض انسحاب الولايات المتحدة الأميركية من أوروبا.

ولا داعي للقول إن إعادة تسليح ألمانيا بمفردها سيطرح العديد من الأسئلة وسيسبب الكثير من القلق، إلا أن إعادة التسليح مع أوروبا والناتو ومن أجلهما، سيكون أمرا مختلفا تماما، وبطريقة أو بأخرى ينبغي أن تكبر أوروبا لتكون أكثر قوة، ولعله من مصلحة الجميع أن تشارك ألمانيا في هذه العملية بفعالية.

*يوشكا فيشر وزير خارجية ألمانيا ونائب مستشارها في الفترة من 1998 إلى 2005، وزعيم الحزب الخضر لمدة 20 عاما تقريبا.

«بروجيكت سنديكيت، 2019» بالاتفاق مع «الجريدة»