في نهاية سنة 2013 قرر الرئيس الأوكراني فيكتور يانوكوفيتش تأجيل توقيع اتفاقية تعاون مع الاتحاد الأوروبي وسعى بدلاً من ذلك الى إقامة علاقات أوثق مع روسيا، واحتشد محتجون في ساحة كييف المركزية وأعقب ذلك أسابيع من التوتر بلغ ذروته في إطاحة يانوكوفيتش.وتابع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين هذه التطورات بغضب وقلق، وكان يخشى أن تفضي هذه العملية إلى احتجاجات مماثلة في روسيا، ثم بدأ بوتين بالإشارة إلى الحكومة الأوكرانية في خطاباته على أنها «حكومة انقلاب». وكان ذلك التعبير هو الذي استخدمه الكرملين في حديثه عن الأنظمة الدكتاتورية في أميركا اللاتينية التي دعمتها الولايات المتحدة خلال الحرب الباردة، وكان إحياء بوتين لهذه اللغة مؤشراً حاداً على تحول العلاقة بين موسكو وكييف، واعتبرت وسائل الإعلام الروسية الخاضعة لسيطرة الدولة السلطات الأوكرانية غير شرعية، مشيرة إلى أن روسيا لن تتردد في «حماية» الناطقين باللغة الروسية من مواطني أوكرانيا من هؤلاء «المغتصبين الفاشيين».
التصرفات التي اتخذتها روسيا بعد إطاحة يانوكوفيتش والتي شملت ضم شبه جزيرة القرم والدعم العسكري للانفصاليين الموالين لروسيا في شرق أوكرانيا معروفة للجميع، وبالنسبة إلى بوتين أبرزت هذه الخطوات إعادة ولادة روسيا كدولة عظمى على استعداد لتجاهل الرأي العام الدولي من أجل تحقيق مصالحها الوطنية.وقد قوبلت سياسة بوتين في أوكرانيا في المرحلة الأولى بشكل جيد تماماً، وحقق بوتين بعد ضم شبه جزيرة القرم رقماً قياسياً تقريباً في الموافقة على سياسته بلغ 86 في المئة بعد أشهر قليلة فقط، ونتيجة لذلك اعتبر أي تنازل يتعلق بالقرم خطاً أحمر لا يستطيع تجاوزه من دون إضعاف قبضته على السلطة. وتعتبر موسكو أن الانتخابات الرئاسية المقبلة في أوكرانيا المقررة في أواخر شهر مارس فرصة من أجل تغيير المسار السياسي في كييف، ويرجع تفاؤل روسيا إلى سنة 2004 عندما استبدل الأوكرانيون الكثير من العناصر الحكومية المقربة من موسكو عن طريق احتجاجات شوارع عرفت باسم الثورة البرتقالية، وقد حكم المستفيد من تلك الحركة– الرئيس فيكتور يوشينكو– خمس سنوات فقط قبل أن يتملك السأم المواطن الأوكراني من بطء وتيرة الإصلاح وقرر انتخاب يانوكوفيتش في عام 2010.الوضع اليوم مماثل تماما، وقد فشل الرئيس الأوكراني الحالي بيترو بوروشنكو في تحقيق آمال الناخبين، ويعتقد الكثير من الأوكرانيين أنه لم يفعل سوى القليل لمحاربة الفساد أو لرفع مستوى معيشة المواطنين، ورغم محاولاته ظلت شعبيته متدنية، ويذكر أن المرشحين الموالين لروسيا علانية يفتقرون الى الشعبية أيضاً منذ أحداث سنة 2014.وفي الوقت الراهن تعتبر يوليا تايموشنكو مرشحة للرئاسة، وقد اشتهرت بانتقادها الشديد لبوروشنكو، كما أن بوتين يعرفها جيداً عن طريق دورها في مفاوضات عام 2009 حول عقد الغاز الذي كان صفقة رابحة لموسكو، وبالنسبة إلى بوتين تعتبر تايموشنكو شريكة جيدة محتملة على الرغم من لهجتها المناوئة لروسيا، وفي حقيقة الأمر أعربت عن رغبتها في إجراء مفاوضات مع روسيا بمشاركة الولايات المتحدة وبريطانيا.ولكن تايموشنكو ليست المرشحة الوحيدة التي تمثل تهديداً للعملية الانتخابية، فقد أعلن فولوديمير زلنسكي وهو ممثل شاب عن ترشحه لمنصب الرئيس مما تسبب في تعقيد المشهد الانتخابي في ذلك البلد.
دور البرلمان أيضاً
وبالنسبة إلى روسيا لا تتطلب اللعبة الطويلة الاهتمام بالرئاسة الأوكرانية فقط، بل بالبرلمان أيضاً، وكان يانوكوفيتش انضم الى حزب الأقاليم وهو كتلة مؤيدة لروسيا في شرق أوكرانيا، ومنذ سنة 2014 تم حل ذلك الحزب وتحولت بقاياه الى مجموعات صغيرة أقل تأثيراً ضمن كتلة المعارضة. ويخطط الآن فيكتور ميدفيدتشك وهو سياسي معروف ومن المقربين من بوتين يخطط لتشكيل ائتلاف من أعضاء حزب الأقاليم السابقين من أجل تصحيح مسار البلاد المؤيد للغرب ومحاولة المصالحة مع روسيا.لقد تغير المشهد السياسي في أوكرانيا، وليس لدى كل أعضاء حزب الأقاليم السابقين الرغبة في التعاون مع شخص يعتقد أنه صديق لبوتين، وفي حقيقة الأمر ولأول مرة منذ استقلال أوكرانيا لن تمثل الانتخابات الوطنية قوة موالية لروسيا تتمتع بقوة تؤهلها للفوز، وفي ضوء المشاعر المعادية لروسيا في أوكرانيا فإن الدعم العلني من جانب موسكو يلحق بالمرشحين درجة من الضرر أكثر من الفائدة، ولذلك فإن من المرجح أن يحاول الكرملين التلاعب بالمعلومات والدعاية التي تعزز الانقسام في المجتمع الأوكراني.وعلى سبيل المثال فإن وسائل الإعلام الموالية للحكومة الروسية تصف الكنيسة الأرثودكسية المستقلة حديثاً بأنها أداة لملاحقة خصوم موسكو، وهي تتوقع اندلاع حرب حول الأماكن الدينية هناك.استمرار النزاع
تجري الانتخابات الأوكرانية ضمن سياق استمرار النزاع في المناطق الشرقية من البلاد، وفي دونباس وهي المنطقة الشرقية التي تمارس فيها الحكومة أي قدر من السلطة لا يزال الجيش الأوكراني يشتبك مع الانفصاليين الموالين لروسيا والذين يتمتعون بدعم تام من جانب موسكو.من جهة أخرى وصلت عملية مينسك التي تشمل اتفاقيات أبرمت من جانب أوكرانيا وروسيا مع مشاركة من ألمانيا وفرنسا وصلت الى طريق مسدود، وفي خريف عام 2018 جرت انتخابات في دونتسك ولوهانسك لكن أوكرانيا رفضت الاعتراف بها، وتخشى أوكرانيا أن تفضي إعادة تكامل دونباس وسكانها الموالين لروسيا إلى زعزعة البلاد وستتم عندئذ إعادة انتخاب أنصار الانفصاليين للبرلمان.في غضون ذلك سيزود استمرار الحرب في الشرق رجال السياسة في كييف بعذر أيضاً حول الإصلاح ليطلبوا مساعدة إضافية من الغرب.وبغض النظر عمن سيكون الفائز في الانتخابات المقبلة فإن المواجهة بين الدولتين يحتمل أن تستمر، والوضع في بحر آزوف يشكل مثالاً جيداً لما ستبدو عليه المواجهة المقبلة، وتعتبر روسيا بحر آزوف جزءاً من مياهها الإقليمية وقد أصبح مضيق كيرش على درجة كبيرة من الأهمية نظراً لأن موسكو شيدت جسراً فوقه يربط القرم مع روسيا القارية، ولكن أوكرانيا ترى أن سيطرة موسكو على بحر آزوف تشكل تهديداً لمصالحها الوطنية لأن روسيا تستطيع عندئذ منع الوصول الى الموانئ الأوكرانية التي تتصف بأهمية كبيرة بالنسبة الى اقتصاد ذلك البلد.أهداف الكرملين
وتشتبه أوكرانيا في أن بوتين يخطط للاستيلاء على هذه الموانئ والمناطق القريبة منها بغية إقامة ممر بري الى شبه جزيرة القرم وتأمين إمدادات المياه إليها، وتشعر روسيا بدورها بقلق إزاء وجود حلف شمال الأطلسي في البحر الأسود وبناء قاعدة عسكرية أوكرانية جديدة في بيرديانسك وهو أحد موانئ بحر آزوف. في غضون ذلك أدى نزاع آزوف الى عسكرة سريعة في المنطقة، وعلى سبيل المثال فقد أطلقت روسيا النار على ثلاث سفن تابعة للبحرية الأوكرانية واستولت عليها أثناء عبورها في مضيق كيرش، وفي أعقاب ذلك أعلن الرئيس بوروشنكو الأحكام العرفية في مناطق الحدود كلها وحظر على الروس دخول الأراضي الأوكرانية.ويستمر خطر حدوث نزاع مسلح كامل نتيجة تهور سياسة بوتين، ولن تكون تلك غريبة على بوتين بسبب هبوط شعبيته وتراجع الموافقة الشعبية على أدائه.ومن المحتمل أن يسعى بوتين الى استخدام الدعم لأوكرانيا على أنه إسفين لتفريق الديمقراطيات الغربية، ونظريته المفضله تقول إن الدول التي فرضت عقوبات على نظامه تعاني بقدر أكبر من تلك العقوبات لأن روسيا تستطيع بسهولة تعويض كل الخسائر التي تكبدتها بسبب أرباحها من النفط.