تناولت في مقالي تحت هذا العنوان، أن القانون رقم 19 لسنة 2012 بشأن حماية الوحدة الوطنية، هو التطبيق الصحيح لأحكام المادة (29) من الدستور التي نصت على أن الناس سواسية في الكرامة الإنسانية، وأنه لا تمييز بينهم في الحقوق والواجبات العامة، وهو ما كشفت عنه وأكدته المذكرة الإيضاحية للقانون، من أن القانون ينطلق من الإيمان بكرامة الإنسان ومن الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وأنه أعد مشروعه للمساواة بين البشر، وأنه إذا كانت الضرورة التي أملت إصداره بمرسوم في غياب مجلس الأمة، وأن ما جاء في هذه المذكرة من ظروف صاحبت الدعاية الانتخابية، وما يخشى من الانتخابات القادمة من تفشي النعرات الطائفية والقبلية، لم يكن تفسيرا لأحكام القانون بقصر تطبيقه على الكويتيين دون غيرهم، بل تبريرا للضرورة التي أملت إصداره بمرسوم دون انتظار الانعقاد القادم لمجلس الأمة، وهي الضرورة التي أقرتها المحكمة الدستورية في الطعن رقم 5 لسنة 2016، المقام أمامها بعدم دستورية هذا القانون، إذ قضت المحكمة برفض الطعن تأسيسا على هذه الضرورة التي أملت على السلطة التنفيذية اتخاذ هذا التدبير العاجل، وختمنا مقالنا السابق بما هو مقرر فقهاً وقضاءً بأن القانون فور صدوره ينفصل عن ظروف ومبررات إصداره، لأن النصوص تدور وجودا وعدما مع علتها لا مع حكمتها.ولكي لا تضل المفاهيم في هذه المسألة ذات الخطر الكبير على الأمن القومي، بقصر تطبيق قانون بحماية هذا الأمن على الكويتيين دون غيرهم، كما روج لذلك البعض، رأينا استكمالا للبحث الذي بدأناه في مقالنا السابق عرض بعض الحقائق الدستورية والقانونية، التي لا تخفى على من روجوا لهذا التفسير المخالف لصحيح نصوص القانون المذكور، ولكن تفسيرهم له كان ولعا بالتمييز العنصري الذي نهى عنه القانون ذاته، وكان تفسيرهم الخاطئ لأحكامه بقصرها على الكويتيين وحدهم، وصماً للقانون ذاته بأنه نهى عن التمييز وأتى بمثله.
إقليمية القانون لا شخصيتهفالأصل العام في القوانين الجزائية هو التطبيق على كل الأشخاص الذين يسكنون الإقليم، دون النظر إلى جنسياتهم، بل يطول القانون بزواجره ونواهيه من شارك في ارتكاب الجريمة الواقعة في إقليم الدولة، ولو كان موجودا وقت ارتكابها خارج البلاد.فالقوانين الجزائية هي قوانين تتعلق بالنظام العام، لهذا حرص الدستور في المادة (49) على أن يقرر أن احترام النظام العام ومراعاته واجب على كل سكان الكويت، وهو باعتباره قانونا جزائيا، يسري على إقليم الدولة طبقا لأحكام المادة (11) من قانون الجزاء الكويتي «على كل شخص يرتكب في إقليم الدولة وتوابعها جريمة من الجرائم» بل يسري كذلك «على كل شخص يرتكب خارج إقليم الدولة فعلا يجعله فاعلا أصليا أو شريكا في جريمة وقعت كلها أو بعضها في إقليم الدولة».وهو ما أوردته المادة الأولى من قانون حماية الوحدة الوطنية من سريان أحكامه، على «كل شخص يرتكب خارج إقليم دولة الكويت فعلا يجعله فاعلا أصليا أو شريكا في الجريمة إذا وقعت كلها أو بعضها في إقليم دولة الكويت».كما نصت المادة الثانية من قانون حماية الوحدة الوطنية على عقاب «كل من يرتكب فعلا يخالف الحظر المنصوص عليه في المادة الأولى من هذا القانون».فأحكام هذا القانون جاءت عامة ومطلقة، والأصل في الحكم العام أن يسري على عمومه وفي الحكم المطلق أن يجري على إطلاقه، فيطول الحظر والعقاب المنصوص عليهما في هذا القانون، كل من ينشر ثقافة كراهية أو ازدراء أي فئة في المجتمع، وفقا لصريح المادة الأولى من القانون المذكور.القضاء الكويتي يؤكد هذا الشمولوقد تعرض كثير من أصحاب الرأي والكتّاب في الصحف الوطنية، كويتيين وغير كويتيين لاتهامات باقتراف الجرائم المنصوص عليها في القانون رقم 19 لسنة 2012، بما يهدد الوحدة الوطنية، ومن بين هذه القضايا الجنحة رقم 197 لسنة 2014 جنح صحافة، التي اتهم فيها الكاتب الكبير صالح القلاب بنشره مقالا في صحيفة «الجريدة» انتقد فيه خطابا للسيد علي السيستاني دعا فيه إلى الجهاد الكفائي ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش في العراق)، بما انطوى عليه هذا النقد من اقتراف الجرم المنصوص عليه في قانون المطبوعات والنشر وقانون حماية الوحدة الوطنية، كما اتهم خالد هلال المطيري رئيس تحرير «الجريدة» بالجرم نفسه لإجازته نشر المقال، وقد برأ القضاء الكويتي ساحتهما في هذه القضية من هذا الجرم، ومن الاتهام الموجه إليهما بالمساس بكرامة المجني عليه السيد علي السيستاني والإضرار بسمعته والإساءة إليه، وقد قام الحكم الصادر ببراءتهما على سند من أن ما جاء بالمقال مجرد رأي لصاحبه يحق له نشره، ويضحى خاليا من أي إساءة إلى المجني عليه.دون أن يتطرق الحكم في الأسباب التي استند إليها إلى جنسية المجني عليه، وهو مرجع ديني له قدره ولكنه لا يتمتع بالجنسية الكويتية (حكم محكمة الاستئناف الدائرة الجزائية الرابعة الصادر بجلسة 29/ 5/ 2017) دون أن يتطرق الحكم في الأسباب التي أقام عليها قضاءه ببراءة المتهمين إلى أن قانون الوحدة الوطنية لا يحمي بحظره وعقابه إلا الكويتيين وحدهم، والمجني عليه وإن كان له قدره كمرجع ديني شيعي لا يحمل الجنسية الكويتية، أو أن رئيس تحرير الجريدة، وهو كويتي الجنسية، له حق في أن يستظل بحماية هذا القانون ويسب من يشاء ويقذف في حق من يشاء من غير الكويتيين.جواز دهس الوافدوقد تذكرت في هذه اللحظات التي أسطر فيها مقالي، مقالا للكاتب الصحافي الكبير خليل علي حيدر على صفحات «الجريدة» في 9 نوفمبر 2015 تحت عنوان «في جواز دهس الوافد» تعليقا على الجريمة التي وقعت بالقرب من مجمع الرحاب في منطقة حولي، والتي راح ضحيتها شاب مصري دهسه شاب كويتي عامدا متعمدا، فهي إحدى جرائم الناتجة عن نشر ثقافة الكراهية ضد الوافدين، حيث يستنكر الكاتب في هذا المقال الانقسام المجتمعي في الكويت نتيجة هذه الثقافة.حماية السلم والأمن المجتمعيوهو أحد الأهداف التي أشارت إليها المذكرة الإيضاحية لقانون حماية الوحدة الوطنية لأن الأمن والاستقرار المجتمعي في الإسلام وفي النظم الاجتماعية الراقية الحديثة ضرورة لا يمكن تجاوزها في حياة الأفراد والجماعات، لأن الإنسان مدني بطبعه، ويستحيل أن يعيش معزولا عن بني نوعه، ويتحول الفرد في المجتمع مع باقي أفراده من ذاتيته إلى إنسانيته، لينخرط في مجتمع يقيم دولة على أرض يحكمها نظام قانوني واحد، لا يفرق بين أفرادها في تحقيق السلم والأمن الاجتماعي، سواء من انتمى إلى هذه الأرض بجنسيته أو بمواطنته.يقول المولى عز وجل في كتابه الكريم «يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ».فالمجتمع لا يتجزأ في حماية سلمه وأمنه الاجتماعي، فخطابهما خطاب لجميع الناس، وأحكام هذا الخطاب هي أحكام إقليمية تسري على جميع المقيمين في الكويت، كويتيين ووافدين.الكويت وطن يعيش فينايترسخ هذا المعنى كل يوم في قلبي وقلوب الكثيرين من المصريين الذين ألتقيهم في الكويت وحتى من ترك منهم الكويت وعاد إلى مصر، وأن الذي يكتمل به المعنى «فليس وطنا نعيش فيه»، والعبارة بأكملها عن مصر والمسيحيين فيها رمز من رموز الوطنية في مصر، وهو نائب برلماني سابق ووزير للمالية أسبق في حكومات فترة الحكم الملكي في مصر هو المرحوم مكرم باشا عبيد، لم أجد أصدق منه في التعبير عن مشاعري ومشاعر الكثير من الوافدين لا المصريين وحدهم.فالعدوان الغاشم على الكويت في يوم الخميس الأسود في الثاني من أغسطس 1990، لم يروع أمن الكويتيين وحدهم، بل روع أمن الجميع، وقد أثبتت الأغلبية الساحقة من المقيمين على هذه الأرض انتماءها الحقيقي لهذا البلد في فترة الغزة وتلاحمها بمواطنتها مع من ينتمون إلى هذا البلد بجنسيتهم.كما كان التلاحم الإنساني بين المقيمين على هذه الأرض الطيبة وبين من ينتمون إليها بجنسيتهم في فاجعة مسجد الصادق يوم 3 يوليو سنة 2015، خير دليل على أن الكويت وطن يعيش في قلوب الجميع، عندما وقف المئات من المقيمين صفوفا متراصة أمام بنك الدم للتبرع بدمائهم للكويتيين من ضحايا هذه الجريمة البشعة.
مقالات
ما قل ودل: قانون حماية الوحدة الوطنية قانون إخاء إنساني (2 من 2)
03-03-2019