أتيح لنا يوم الجمعة الماضي أن نصل، رغم العقبات والمنع، إلى القدس، وأن نشارك جموع المصلين في المسجد الأقصى أداء صلاة الجمعة في مصلى الرحمة، الذي أعيد فتحه والحفاظ عليه مفتوحا بإرادة ونضال وصلابة المناضلين المقدسيين الذين قدموا مرة أخرى، بعد هبة تموز (يوليو) عام 2017، نموذجا يقتدى به في المقاومة الشعبية القادرة على تحدي إجراءات الاحتلال المجحفة وعلى فرض الأمر الواقع الفلسطيني.مصلى الرحمة، ليس مجرد باب فتح، بل هو حيز كبير وجزء مكون من أجزاء المسجد الأقصى، تنتصب في داخله أعمدة تاريخية بالغة العراقة ويلتصق حائطه الخارجي ببابي الرحمة والتوبة وتحيط به مساحات واسعة من الحرم الشريف.
وقد مثل الفعل الشعبي بإعادة أداء الصلاة فيه وفي باحته عملا وطنيا بامتياز لأنه استبق مخططات استعمارية استيطانية خطيرة للاستيلاء عليه وتحويله الى فناء لبناء هيكل مزعوم. وما أثبتته أحداث مصلى وباب الرحمة، مرة أخرى، أن أبناء وبنات شعبنا المقدسيين عصيون على الاحتلال وقمعه، بل إنهم يتفوقون كل مرة في القدرة على التكاتف، والوحدة، والعطاء التطوعي بلا حدود، ودون انتظار لمكافآت من أحد. وهم يشعروننا بالفخر كفلسطينيين، استطاعوا أن يحموا المسجد الأقصى، وكل المقدسات الإسلامية والمسيحية، رغم تقصير كثيرين ممن يملكون الجيوش والأموال والقدرات، وفي المحصلة فإن أهل القدس برهنوا بالأفعال على قوة فكرة وأداء المقاومة الشعبية الأصلية. الوقاحة بلا حدودلم أفهم معنى كلمة «خوتسبا» العبرية، حتى شرحها أحدهم لي برواية قصة رجل أقدم على قتل أبيه وأمه للاستيلاء على أموالهم، فحكم عليه بالإعدام وعندما سأله القاضي إن كان لديه كلمة أخيرة، أجاب أنه يطلب الرحمة، فسأله القاضي على أي أساس، فأجاب على أساس أنه يتيم الأبوين. وهكذا فهمت معنى الخوتسبا التي تنطبق على تصرف هذا القاتل، بمعنى أنها الوقاحة المفرطة الجرأة، غير أنني فهمت الخوتسبا بصورة أفضل عندما بدأ حكام إسرائيل وأعوانهم الحملة الإعلامية الهوجاء، والتي أتبعت بإجراءات قرصنة مالية، ضد الأسرى البواسل وعائلات الشهداء ضحايا القتل والقمع الإسرائيلي.هؤلاء المناضلون الأسرى، وهؤلاء الشهداء الأكارم، كانوا ضحايا احتلال غير قانوني وغير شرعي في كل الأعراف، وبعضهم أُحرق حيا أو قُتل بدم بارد على يد مستعمرين مستوطنين، أو برصاص جنود الاحتلال، وبعضهم مثل رزان النجار استشهد على يد القناصة الإسرائيليين وهم يسعفون الجرحى أو يقومون بواجبهم الصحافي. وعدد كبير من الأسرى اعتُقل ويُعتقل دون تهم، ودون محاكمة، في إطار ما يسمى «الاعتقال الإداري»، وأولئك الذين كافحوا منهم دفاعا عن حقهم وحقوق شعبهم يُسمون في القاموس الإنساني المعاصر «مقاتلو الحرية» ويمجدون في كل مكان إلا في فلسطين التي لا يتورع حكام إسرائيل، ومن يساندهم بلا حياء في مجلس الشيوخ الأميركي، عن وصف كل نضال فلسطيني حتى لو استخدم أكثر الأشكال سلمية بالإرهاب والتحريض واللاسامية.أن يصبح المحتل والقاتل بريئين ومحميين، ويصبح من يدافع عن نفسه متهما وملاحقا، هذه هي الخوتسبا، وهذه هي أقصى درجات الوقاحة، أما أن تستولي حكومة إسرائيل بالقرصنة واللصوصية على الأموال التي يدفعها شعبنا الرازح تحت الاحتلال كضرائب تقتطع من عرق جبيننا ورزق أطفالنا، بحجة محاصرة مخصصات الأسرى وعائلات الشهداء فتلك وقاحة لم يسجل لها مثيل. ما لا يعرفه المحتلون، مثل كل المستعمرين في كل العصور، أنه ما من إجراء قمعي وما من فعل انتقامي، استطاع أو يستطيع منع شعب من احتضان ورعاية أسراه وعائلات شهدائه، حتى لو جاع من أجل أن يطعمهم. * الأمين العام لحركة المبادرة الوطنية الفلسطينية
مقالات
مصلى الرحمة وقوة المقاومة الشعبية
03-03-2019