الشمس حارقة حتى في الصباح، ولكن هناك رياح حسّنت من الطقس حتى حولته إلى طقس شتوي في بلدان لا تعرف الشتاء إلا سريعا وقليلا، ترشف قهوتك باستمتاع رغم أن النادل تأخر في إحضارها حتى بردت، تتصفح الجريدة التي طلبت بعد أن عرضت عليك المسؤولة عن ذاك المقهى وعن إفطارات الصباح الفاخرة، عرضت عدداً من الجرائد المحلية باللغات المختلفة، فكان ردك شكراً جزيلاً، ولم تتمالك هي أن تعبر عن استغرابها، قلت لها أريد جريدة تقرأ لا جريدة أتصفحها لأتابع صور المسؤولين مرصوصة بين كم من الإعلانات للهمبرغر والمطاعم السريعة والسيارات وأفخر الساعات المرصعة بالألماس. تحاول أن تتجاهل كل المنغصات في طقسك الصباحي الهادئ، وأنت تقرأ عن البريكست وتداعيات الأزمات الاقتصادية في الدول الأوروبية وبينها عن أصحاب السترات الصفراء في فرنسا، يمر العابرون كثرا، نساء وأطفالا ورجالا، كبارا في السن ومتوسطيه ولكن الكثيرين من الشباب تقاوم فضولك في متابعة الأزياء الفاخرة التي يلبسونها للذهاب للبحر لا حفلة موسيقية أو عشاء في أحد مطاعم هذه المدينة التي تروج لسبل الرفاهية وموادها، ولا تنسى أسباب الراحة كلها، كل شيء متوافر هنا إلا الرأي، فهذا عليك أن تتركه مع موظف الهجرة الذي يختم جواز سفرك عند دخول الحدود!
يبقى فضولك يطاردك، تتذكر أنك ربما لا تفهم كل التطورات التي حدثت موخراً في هذه المجتمعات الحديثة، كنت وعدت نفسك ألا تنظر للتشوهات، فهذه عادة بذيئة عليك التخلص منها، وهذا ما ردده عليك الكثيرون حتى بحثت عن رد ربما يبدو مقنعاً، وهو أنك تحاول النظر إلى نصفي الكوب المليء والفارغ أيضا لتكون الصورة مكتملة!تبقى الأجساد تتحرك بأطباق مليئة بما لذّ وطاب، معجنات وفواكه وبيض وأجبان أحضرت خصيصا من فرنسا بلد ما يقرب من 350 إلى 450 نوعاً من الأجبان، ويقول بعضهم إن العدد وصل إلى ألف نوع من الجبن. لا تلتفت إلى كم الأكل الذي يستهلك والآخر الذي يُرمى في سلة المهملات، في حين أصوات الجياع ليست بعيدة بل تأتي بها الرياح القادمة من الجنوب المنكوب، ولكنك لا تمتلك سوى أن تطرح السؤال لأصدقائك الآخرين المشغولين بقراءتهم ومتابعتهم، ولكن لم تفهم الملاحظة نفسها أن الجميع يرتدون الزي نفسه حتى خيل لك أن هذا الفندق الفخم يوزع هذه الملابس أو يشترط لبسها عند الحجز في فندق النجوم الخمسة أو أكثر. كلهم رجال ونساء يرتدون خفّا أو شبشبا أو نعالاً من الماركة نفسها بألوان مختلفة، ما كان فضولا تحول إلى لعبة مسلية؛ كم من الموجودين يرتدون النعال نفسه، فكان العدد كبيراً جداً، ولا تنسى الشنط هي الأخرى عليها أن تكون من الماركات الفاخرة (السينيه)، ولا تنتهي المراقبة عند هذا بل تتعداها إلى نوع العباءات التي ترتديها بعض النسوة وتكثر المفاجآت بالنسبة إلى القادم الجديد، حيث إن أسعارها تنافس الفساتين الفاخرة الباهظة الثمن، في حين بدأت تتلون بعض الشيء، وتتحول بعض الشابات عن لبس العباءة السوداء، وفي هذا بعض الراحة لأن الأسود تحول إلى شعار المرحلة في بلداننا من "داعش"، حتى نساءنا المزينات بالموضة مع شيء من الدين أو العادات. تنوعت التلاوين لكنها في مجملها لا تبعد عن أن تكون تشوهات حقيقية لمجتمعات فقدت أو خجلت من ملامحها وتفاصيلها، فتحولت إلى شيء من لا شيء، هم جميعا صنف واحد متحدون في هويتهم الفاخرة التي لا يستطيع المرء أن يعيش في هذه البلدان دونها، مرض انتشر حتى في الطبقات الأقل قدرة ومجتمعات عربية بعيدة لا تملك مثل هذه الرفاهية ربما، رغم أن سكان هذه المدن المتشوهة ليس كلهم من الأثرياء الجدد! يدرس الأطفال في مدارسهم الفاشلة، هذا ليس تعبيرا اخترعته لكنه مصطلح حول التعليم، فلا يوجد تلميذ فاشل إنما هناك مدرسة فاشلة ونظام تعليمي فاشل، ما يهمنا أن ما يدرس لا يمتّ للواقع بصلة، فهناك من يردد عليهم أقوالا قد انقرضت حتى أصبح من المفيد وضعها في المتاحف! يردد المعلم المسكين كلام الأنبياء والخلفاء ومنها "علموا أولادكم السباحة والرماية وركوب الخيل"، قول لعمر بن الخطاب ونسب كثيراً إلى الرسول عن طريق الخطأ. في حين تعلم العائلات أطفالها يوميا ركوب السيارات الفاخرة و"التشفيط" في الشوارع والإكثار من الجلوس في المقاهي لمراقبة الآخرين، ربما لتقليدهم، ربما لحسدهم والإكثار من شرب "الشيشة"، وهي وسيلة تسلية في مجتمعات لا تنتج إلا خبيرات التجميل والأزياء وتعليم الآخرين وتعويدهم على كيفية الاستهلاك الأكثر، والظهور بما يبدو باهظ الثمن لأن هويتهم هي عباءتهم أو حقيبة يدهم أو حذاؤهم. لا تستطيع مقاومة أن الرجال لا يختلفون عن النساء، فهذه الثقافة لا تفرق بين الجنسين والعياذ بالله إلا في قضايا تمس حياة النساء في صميمها، في حين يمر بك ذاك الشاب المفتخر بملابسه على أشكالها وحذائه وشنطة الأعمال المنتفخة، ولا يكترث بالسيدات الكبيرات في السن العابرات، ولم يعلمه أحد أن عليه الانتظار ليمر من أكبر منه سناً أو أن يحترم النساء أو أن يقدر الأطفال. كثير من المظاهر وقليل من الأخلاق لا تبني أوطانا ولا شعوبا ولا حتى "نعال" الهرمز الفاخرة تجعل من هذه المرأة أو ذاك الرجل أكثر حضارة وإنسانية، ربما نلحق قبل أن تتحول التشوهات إلى أنماط للعيش ويصبح المتبقي من أخلاقيات الطيبين الذين عاشوا في هذه البلدان مجرد حكايات شعبية تروى في الكتب، ويداس عليها في المتاحف. * ينشر بالتزامن مع «الشروق» المصرية
مقالات
بين قهوة الصباح و«نعال» هرمز!!
04-03-2019