تحولات أدبية
في منتصف الثمانينيات زرتُ الشاعر الراحل أحمد السقاف ومعي خطاب من الإدارة الثقافية في الجامعة، لدعوته إلى مهرجان الشعر السنوي الذي تقيمه الإدارة في فبراير من كل عام. كان الشاعر أيامها أمين هيئة الخليج والجنوب، ولا أتذكر الآن أين مقرها أو ماذا حلَّ بها، رغم حاجتنا لها. أثناء جلستنا سألني السقاف عن شاعر بدوي نحيل الجسم، طويل، "أصفر اللون"، والتعبير للسقاف، يكتب شعرا مغايرا ومختلفا عما هو متوقع منه. كانت الإجابة سهلة جدا. فيومها لم يكن سوى الشاعر الراحل سليمان الفليح، الذي اقتحم الحياة الثقافية الكويتية، ليقدم تجربة مختلفة تستحق الانتباه. لكن سليمان في تلك الفترة كان، كعادته، لا يستقر في مكان، ولا تعلم أين هو، فينجلي غيابه فقط حين يظهر. قلت له: "هذا سليمان الفليح، قابلته قبل عامين أو أكثر، ولم أره منذ ذلك الحين".احتفت أيامها الرابطة بالشاعر سليمان، وقدمته في أمسياتها، واصطحبه الشاعر يعقوب السبيعي للإذاعة لإلقاء أشعاره.
لا شك أن هذا الاحتفاء كون سليمان "الشاعر البدوي" ليس من مكوّن رابطة الأدباء حينها، وهو لا يعمل ضمن منظومة يمكن أن نطلق عليها الإقليم مقابل المركز. كان شاعرا واحدا يدخل عالما تأسس منذ سنوات طويلة، عالما منظما له كيان اجتماعي ومؤسسي، مجموعة كبيرة من الأدباء معترف بها سياسيا وثقافيا، ومعترف بها عربيا لتمثيل الكويت ثقافيا في كل محفل ومؤتمر. كان الإقليم مجموعة من البدو الذين نزحوا من صحرائهم إلى المدينة، دون أن يتمكن أغلبهم من اقتحام حياتها المادية الصعبة، فلجأوا إلى أسهل طرق البقاء، ليجدوا فرص العمل في الجيش والشرطة وحراسة النفط، فهي وظائف لا تحتاج إلى تعليم وأقلام وأوراق ودفاتر، لكنهم حرصوا، وهذه حسنتهم الكبرى، على تعليم أبنائهم كمن يجهزهم للمدينة التي لا تبعد عنهم كثيرا. وكذلك حرص كثير منهم على تعليم نفسه، في محاولة لفهم العالم من حوله. بالتأكيد، في البداية، ستبقى الفجوة بين الجيل الحضري والأجيال البدوية في مصلحة الأول، لحاجة الثاني إلى كثير من الوقت كي يخرج منه جيل يكون رافدا مساعدا ثقافيا، وربما متقدما على رفيقه حامل مشعل الثقافة ومؤسسها في الكويت. وشهدت نهاية الثمانينيات ومطلع التسعينيات ظهور كُتاب وشعراء وقصاصين اختلطوا سريعا بأقرانهم، وحرص بعض شعراء الرابطة، كالدكتور خليفة الوقيان، على العمل مع الشعراء الشباب فيما يشبه "الورشة الفنية"، لمتابعة أعمالهم.أقول هذا، دون أن أنكر بعض الضغائن التي كان يحملها البعض ضد دخول الشباب المؤسسة الثقافية، لكن ذلك لم يكن ذا تأثير كبير. الكُتاب والأدباء الكويتيون اليوم يديرون المؤسسة الأدبية دون عنصرية، ويشاركون في الفعاليات المصاحبة جنبا إلى جنب دون حساسية. يدخلون مجالس الإدارة، وينظمون فعالياتها، ويشاركون في المؤتمرات الخارجية.المشكلة الثقافية التي يبدو حلها مستعصيا هي ما يواجه الكُتاب البدون، وهم الجيل الذي تم فرزه عن زملائهم الكويتيين من أهل الصحراء، من حيف المؤسسة الرسمية والشعبية وبعض الشخوص الفاعلين في العمل الثقافي. فالتعامل معهم لا يشبه تعامل زملاء سليمان الفليح مع سليمان الفليح، فكانت محاولة الإقصاء واضحة، ساهم فيها الجميع، بمن فيهم أصدقاؤنا حين اعتلوا المناصب الإدارية.لكن جيل الأدباء الحالي استطاع فرض عمله الأدبي؛ محليا وعربيا، وما زال يناضل، ليفرض نفسه من الخارج إذا صعب العمل من الداخل، وينجح كثيرا في ذلك. وفي أغلب الأحيان ترضخ المؤسسة الرسمية والشعبية لتكريمه والاعتراف بعمله. فالنجاح يبدأ أولا وثانيا وأخيرا من عملك وقدرته على الوصول للمتابع والمؤسسة.