حب الوطن ثقافة!
يبدو الأمر محيراً بأن تكون السنوات الثلاث إلى الخمس الأولى هي التي تقرر وترسم قرابة تسعين في المئة من شخصية الإنسان! وإذا كانت مدرسة علم النفس تحاول تأكيد ذلك في آلاف الأبحاث، فإن علم الجينات والوراثة الحديث والمتطور يسير في الاتجاه نفسه، بتأكيد أهمية السنوات الثلاث الأولى للإنسان، وأنها تؤسس لعلاقته بالأصوات والروائح والكلمات والهدوء والموسيقى والطبيعة والوصل الإنساني، أو الحب. لذا يبدو متسقاً هذا الاختلاف الواضح بين مختلف الأجيال وفي مختلف دول العالم، بما في ذلك وطننا الكويت. أجيال ولِدت في كويت العشرينيات والثلاثينيات وحتى الأربعينيات، وعاشت في حضن الأم، وقرب أصوات الأخوات والإخوة والأقارب، في بيوت الحجر والطين ومعاناة العوز والفقر، حين كان البحر مفردة حاضرة على مادة العيش الأسري، وفي كل بيت. تلك الأجيال ولدت وتربت وعاشت في بيئة كويتية مغايرة لما هو راهن اليوم، وبالتالي جاءت قناعاتها حيال نفسها وحيال وطنها وحيال العالم مغايرة تماماً لما هي عليه قناعات الجيل الحالي. بل صار الفرق واضحاً بين مسلك المواطن الكويتي في الستينيات والسبعينيات وما هو شاخص اليوم، وفي مختلف مناحي الحياة. فلقد استوقفني عرض لفيديو قصير على "تويتر" يظهر كيف كان الكويتيون يحتفلون بعيد الاستقلال، وما آلت إليه الأمور في احتفالاتنا الحالية بالعيد الوطني ويوم التحرير. في السبعينيات والثمانينيات كانت الدولة بمختلف مؤسساتها هي التي تقوم بتنظيم الاحتفالات، ويشارك الناس بفرح مسالم وبتقدير لتلك الجهود، وبما يظهر احتفالات تلك السنوات بشكل متسق بين جهد مؤسسات الدولة ومشاركة الشعب. لكن الأمر اختلف تماماً في السنوات العشر الأخيرة حتى صار لا يُطاق، أو بكلمات أخرى، صارت ممارسات البعض غير مقبولة ومنفّرة في احتفالية كبيرة ومقدسة بحجم الوطن.
لا أرى أي رابط بين احتفال البلد بالعيد الوطني وعيد التحرير، وهما مناسبتان غاليتان على نفس كل مواطن أو مقيم في البلد، وبين التصدي لإيذاء البشر، كل البشر، برشهم بماء حارق ومتسخ، أو رميهم بحجر، أو الاعتداء عليهم جسدياً أو لفظياً بحجة اللعب معهم. الحب ثقافة، التعبير عن سلوك الحب ثقافة، محبة الوطن ثقافة، التعبير عن حب الوطن ثقافة، وفي محصلة هذه المحبات، صار من الواجب الالتفات لمناسبة احتفالات العيد الوطني وعيد التحرير باحترام وتقدير تستحقهما هاتان المناسبتان، وكذلك إظهار وجه مشرق وحضاري وإنساني لاحتفال الوطن بأعياده. فما عاد مقبولاً أبداً ما تتناقله وسائل الإعلام وشبكات التواصل الاجتماعي من لقطات مشينة تحت مسمى احتفالات العيد الوطني. ولا أظن الأمر صعباً في تنظيم وإخراج هذه الاحتفالات بما تستحق من وطنية واحترام وجمال.البحث في حب الكويت، في تاريخ الكويت، في المنعطفات السياسية والاجتماعية الأهم لهذا الوطن قادرة على رسم خريطة الاحتفالات بالأعياد الوطنية، بدءا من مراسم رفع العلم، مروراً بالاحتفالات الرسمية وأخيراً الاحتفالات الشعبية. ليس صعباً على حكومة، ممثلة بجميع الوزارات المعنية وجمعيات النفع العام ومؤسسات المجتمع المدني، أن تنظم وتحرس واحدة من أهم احتفالات البلد إن لم تكن الأهم. وليس صعباً حفظ كرامة الوطن وكرامات الناس في مناسبة هي الأغلى على نفوس الشعب الكويتي.إدراج الفني والتراثي والراهن في احتفالات رسمية شعبية تدلل على حب الوطن ليس صعباً في ظل وجود طاقات شبابية كويتية كبيرة ومخلصة ومستعدة لتقديم كل ما يمكن تقديمه للظهور أمام العالم بأجمل الاحتفالات.الوطن محبة، ولتلك المحبة ثقافة، وتلك الثقافة تقوم على الأسرة والمدرسة والدولة. وكل طرف من هؤلاء عليه واجب إرساء هذه الثقافة في البيت والمدرسة والشارع. لأننا نحب الكويت نتمنى إيقاف ما يُسمى زوراً احتفالات شعبية، ولأننا نحب الكويت نتمنى أن تأتي احتفالاتها بأعيادها الأغلى بوصفها درة الخليج التي كانت ولم تزل وستبقى.