في علاقات أوروبا مع جيرانها العرب ومستعمراتها السابقة، لا يُعتبر التاريخ الغني وحده المهدد، فقد شكّلت القمة غير المسبوقة بين جامعة الدول العربية والاتحاد الأوروبي في شرم الشيخ بمصر صداماً بين أنظمة سياسية، إذ يفتخر الاتحاد الأوروبي بسياسته الخارجية التي تستند إلى القيم والتي تدعم الديمقراطية، وحكم القانون، وحقوق الإنسان، واعتبار تونس وحدها التي تقترب من استيفاء هذه المعايير من بين الدول العربية التي اجتمعت في مصر.

اعتادت أوروبا تصوير تضحيتها بحقوق الإنسان ثمناً لا مفر منه للدبلوماسية في عالم تسوده الفوضى، لكن هذا لا يشكّل رياء فحسب، بل يُعتبر أيضاً نوعاً من خداع الذات، وهنا ينشأ سؤال مهم: لمَ تشعر أوروبا أن من الضروري بناء علاقات بين الحكومات مع أنظمة مستبدة مماثلة؟

Ad

يشير التحليل المنطقي وراء لقاء جامعة الدول العربية هذا إلى أن على أوروبا أن تتحاور مع جيرانها، ولا يمكننا إنكار ذلك، لكن قمة شرم شيخ لم تشهد أي إنجازات غير الحوار، إلا أن هذا لا يعني أنها لم تحمل أي تأثيرات. فالرئيس السيسي يتوق إلى الشرعية، وقد منحه إياها الاتحاد الأوروبي بقبوله دعوته، كذلك زوّد السيسي بمنصة للبروز، فقد أنهى رئيس المجلس الأوروبي دونالد تاسك اللقاء في مؤتمر صحافي مع السيسي الذي رفع راية الوطنية الثقافية، وأعلن قبل أن يعلو تصفيق صفوف الصحافيين المصريين: «لن تعلّمونا عن الإنسانية»، وشدد على أن الأوروبيين والعرب يملكون «نظرة مختلفة إلى الإنسانية، والقيم، والأخلاق... احترموا قيمنا وأخلاقنا لنحترم قيمكم وأخلاقكم».

تشكّل مشاركة الاتحاد الأوروبي، حسبما ذكر دبلوماسي بارز سابق بصراحة، تمريناً على «واقعية» جديدة، وتحلى رئيس الوزراء الدنماركي مارك روته كعادته بالجرأة وسعى إلى تسمية الأمور بأسمائها، فأعلن أن الوقت قد حان لأن تتقبل أوروبا فكرة أن «القوة» ليست كلمة سيئة. وكما عهدناه، طرح تشبيهاً بسيطاً ومرحاً، فقد قال في خطاب أدلى به في سويسرا قبيل قمة مصر: «تُضطر أحياناً إلى الرقص مع المتوافر في حلبة الرقص».

ولكن هل يبدو هذا منطقياً؟ وأي نوع من القوى يرقص معه الأوروبيون؟ ولمَ تجد أوروبا نفسها مضطرة إلى الرقص أساساً؟

باستثناء الواقع الجغرافي، ما الذي يرغم الاتحاد الأوروبي على التعاطي مع قادة كهؤلاء؟ يحمل ذكر «الواقعية» دلالات كثيرة، حيث يشكّل غالباً وسيلة لإنهاء البحث في السؤالين «لمَ؟» و»لأي هدف؟».

ما يرغم الاتحاد الأوروبي على السعي إلى إقامة حوار بنّاء مع جامعة الدول العربية هو إخفاقه في معالجة مشكلة الهجرة داخل أوروبا، فلا تشكّل جامعة الدول العربية مصدر لاجئين، وطالبي لجوء، ومهاجرين اقتصاديين فحسب، بل تمثل أيضاً حاجزاً بين أوروبا وعشرات الآلاف ممن يرغبون في الهجرة شمالاً في الساحل الإفريقي وإفريقيا السوداء.

من الواضح أن الحل البناء الوحيد لهذه المشكلة على الأمد الطويل يقوم على السلام، وإعادة إعمار ليبيا وسورية والعراق، وتنمية كامل المنطقة اقتصادياً، وبتشجيع من ألمانيا، تعمل أوروبا على الترويج لأجندة تنمية طموحة في إفريقيا، وهذه بالتأكيد المقاربة الصحيحة، لكن حجم المشكلة مهول، لذلك تبدو المبالغ المالية التي يُحكى عنها غير ملائمة البتة، وحتى لو جُمعت الأموال، فلا أحد يملك اليوم أدنى فكرة عن كيفية إنجاح مشاريع بنية تحتية ضخمة إلى هذا الحد. فالعالم بأسره ينتقد اليوم مبادرة الحزام والطريق الصينية، لكن وزير المالية الألماني تحلى أخيراً بالجرأة الكافية ليقر بأن التنمية الاقتصادية قد تدفع على الأمد القصير أعداداً أكبر من الناس إلى الهجرة.

باختصار، ما من سيناريو منطقي لا تُضطر فيه أوروبا في نهاية المطاف إلى استقبال أعداد كبيرة من المهاجرين من جيرانها الجنوبيين، بالإضافة إلى ذلك، نظراً إلى واقعها السكاني، من السهل تقديم الحجج التي تدعم فكرة أن أوروبا بحاجة إليهم، ولكن ما يجعل هذه المسألة ملحّة إلى هذا الحد هو عدم استعداد أوروبا للتعاطي مع دفق مماثل.

كما كشفت أزمة اللاجئين المتواصلة خلال السنوات الأخيرة، أن أوروبا تفتقر إلى خفر سواحل يتمتع بالتمويل والتجهيزات الضرورية، كذلك تبين أنها بطيئة وغير فاعلة في مساعدة المهاجرين بفاعلية على الاندماج في القوة العاملة الأوروبية، ورسم المسارات كاملة نحو الحصول على الجنسية، وبناء صورة إيجابية عن المستقبل الإفريقي - الأوروبي.

شكّل عجز أوروبا هذا السبب الذي أرغمها على الاعتماد على مضض على جيرانها الجنوبيين المستبدين في احتواء أعداد اللاجئين والمهاجرين الكبيرة وإيوائهم، واتضح هذا الواقع بادئ الأمر عام 2016 من خلال صفقة عقدتها ميركل مع الزعيم التركي رجب طيب أردوغان: يدفع الاتحاد الأوروبي لتركيا مبالغ من المال كي تستقبل اللاجئين العائدين من أوروبا، ثم توالت صفقات أخرى مع ليبيا، وفي شرم الشيخ لم تكن هذه المسألة مطلقاً بعيدة عن السطح.

نظراً إلى البطء الذي يتحرك فيه الاتحاد الأوروبي، تشكّل صفقات مماثلة ضرورة مزعجة على الأمد القصير، لكن تغليف هذه المسألة بغلاف الواقعية مضلل، حيث يفترض طارحو النظريات الواقعية أن للدول مخاوف أمنية وأنها توجّه سياساتها وفق هذه المخاوف، لكن هذا السعي المكثّف إلى الأمن هو ما زعزع أمن جيران أوروبا، فكانت النتيجة معضلة أمنية مأساوية: عالماً من العداوة والخصومة يتطلب فيه الدفاع عن الأمن سياسات متشددة وأحياناً غير نزيهة إذا دعت الحاجة.

لكن هذه ليست مشكلة الاتحاد الأوروبي في تعاطيه مع نظام السيسي في مصر، إلا إذا اعتُبر المهاجرون اليائسون دولة معادية لا بد من التصدي لها باتخاذ حلفاء، مهما كانوا بغيضين، يجب أن تكون مشكلة الهجرة ما دعاه الفيلسوف يورغن هابرماس مشكلة السياسة المحلية العالمية، لكن عدم تماسك الاتحاد الأوروبي وتناقضاته دفعاه إلى تكليف العمل الأكثر بشاعة لجيرانه الأكثر تشدداً، ولو عمد السيسي والقادة العرب إلى فضح رياء الاتحاد الأوروبي علانية لأصابوا بالكامل.

لكن الحديث عن الواقعية يتحوّل بسهولة إلى عذر يبرر الإخفاق في استكشاف الخيارات وسبل العمل الأخرى، فالنظر بواقعية إلى ضرورة العمل مع الصين في مجال التغير المناخي مسألة مختلفة تماماً، لأنه ما من بديل، لكن الوضع يختلف بالكامل عند إصرارك بأن عليك التعاون مع قادة غير ديمقراطيين بسسب عجز أوروبا عن معالجة مشكلة الهجرة، ولكن هذا ما اختارته أوروبا، ولا يشكّل هذا واقعية بقدر ما هو إخفاق مذل للحوكمة الديمقراطية.